الهجرة النبوية
الهجرة النبوية
أدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ القيادة الوثنية في مكّة مصرّة على الوقوف بوجه دعوته وإلحاق الأذى به واضطهاد أتباعه، فعزم على مغادرة مكّة وطلب النصرة من خارجها، وذلك بعد أن جاءه الوحي طالباً منه ذلك.
عدد الزوار: 185بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أنّ القيادة الوثنية في مكّة مصرّة على الوقوف بوجه دعوته وإلحاق الأذى به واضطهاد
أتباعه، فعزم على مغادرة مكّة وطلب النصرة من خارجها، وذلك بعد أن جاءه الوحي طالباً
منه ذلك. "أن أخرج منها فقد مات ناصرك" وكان خروجه إلى بني عامر، ثمّ إلى ربيعة
وبني شيبان، ثمّ إلى الطائف.. ولكنه لم يجد الناصر والمعين، بل إزداد القوم جرأة
وتنكيلاً به.
قدوم أهل المدينة إلى مكة
كادت الفتن والحروب بين الأوس والخزرج أن تقضي على الطرفين، وهذا ما استدعى أن
يجترأ عليهم بنو النضير وقريظة وغيرهم من اليهود، فخرج قوم منهم إلى مكّة يطلبون
قريشاً لتقوّيهم، فاشترطوا عليهم شروطاً لم يكن لهم فيها مقنع، وكان المشترط عليهم
أبو جهل بن هشام المخزوميّ شروطاً لم يقنعوا بها، ثمّ قدم منهم رجل يُقال له سُويد
بن الصامت من الأوس والتقى برسول الله (صلى الله عليه وآله) فكلّمه ودعاه، ثمّ عاد
إلى المدينة فقتلته الخزرج، وتوالت الوفود من المدينة على النبي (صلى الله عليه
وآله) إلى أن خرج منها إثنا عشر رجلاً إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وكانوا أصحاب
العقبة الأولى وآمنوا بالله وصدّقوا النبي (صلى الله عليه وآله)، وانصرفوا إلى
المدينة وفشى فيها أمر الدين الإسلامي الجديد.
وفي العام القابل خرج إلى النبي (صلى الله عليه وآله) جماعة من الأوس وجماعة من
الخزرج فوافى منهم سبعون رجلاً وامرأتان فأسلموا، وأخذ النبي (صلى الله عليه وآله)
عليهم بيعة النساء، وطلبوا منه أن يخرج معهم إلى المدينة وعاهدوه على النصرة، فأخذ
(صلى الله عليه وآله) عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله ممّا يمنعون منه
أنفسهم وأهليهم وأولادهم، وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر وأن ينصروه على
القريب والبعيد، وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة .
الهجرة النبوية إلى المدينة
رأى المسلمون في أرض المدينة بعد أن اشتدّ عليهم البلاء والعذاب من أهل مكّة داراً
للإيمان، فلجأ إليها الكثير منهم بطلب من النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد أقلق هذا
الأمر قريشاً فاجتمعت في دار الندوة واتفقت على أن يجتمع من كل بطن من بطون قريش
رجلٌ ليضربوا النبي (صلى الله عليه وآله) بسيوفهم ضربة واحدة، ويضيع دمه بينهم.
وقد أخبر الله تعالى نبيّه بالأمر بقوله تعالى:
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
وكان أبو جهل قد اجتمع مع زعماء مكة في دار الندوة وقال لهم: "يا معشر قريش إنّه لم
يكن أحدٌ من العرب أعزّ مِنّا، نحن أهل الله تفِد إلينا العرب في السنة مرتين،
ويكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نَشَأ فينا "محمّد
بن عبد الله" فكّنا نسمّيه "الأمين" لصلاحه، وسكونه، وصدق لهجته، حتّى إذا بلغ ما
بلغ وأكرمناه إدّعى أنّه رسول الله، وأنّ أخبار السماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، وسبّ
آلهتنا، وأفسد شبابنا، ومزّق جماعتنا، فلم يرِد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت
فيه رأياً، رأيت أن ندسّ إليه رجلاً منّا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه (أو بديته)
أعطيناهم عشر ديات.
فردّ رجل في المجلس: ما هذا برأي، لأنّ قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمن هذا الذي
يبذل نفسه للقتل.
حوار النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع الإمام عليّ (عليه
السلام)
عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) أن يبيت في فراشه بوحي من الله تعالى، حيث ورد أنّه (صلى الله عليه وآله)
قال له: "أوحى إليّ ربّي أن أهجر دار قومي وأنطلق إلى "غار ثور" تحت ليلتي هذه
وأن آمرك بالمبيت على مضجعي ليخفي بمبيتك عليهم أمري".
وفي نص آخر أنه (صلى الله عليه وآله) قال: "يا علي، إنّ قريشاً إجتمعت على المكر بي
وقتلي، وأنّه أوحيَ إليّ من ربّي أن أهجر دار قومي، فنم على فراشي والتحف ببُردي
الحضرمي لتُخفي بمبيتك عليهم أثَري، فما أنت قائل وصانع؟".
فقال علي (عليه السلام): "أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبيّ الله؟". فقال (صلى الله
عليه وآله): "نعم".
فتبسّم الإمام ضاحكاً وأهوى على الأرض ساجداً شاكراً لما بشّره (صلى الله عليه وآله)
بسلامته ثمّ رفع رأسه وقال (عليه السلام): "إمضِ لما أُمِرتَ فداك سمعي وبصري
وسويداء قلبي، ومُرني بما شئت أكن فيه لمسرّتك، وأقع فيه بحيث مرادك، وإنّ توفيقي
إلّا بالله".
وأنزل الله عزّ وجلّ قوله تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء
مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
المباركة الإلهية لعليّ في المبيت
لمّا بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خبر مؤامرة قريش، والأمر لعلي (عليه
السلام) بالمبيت في الفراش، خرج (صلى الله عليه وآله) في الظلام ومعه أبو بكر، أوحى
الله تعالى في تلك الليلة إلى جبرئيل وميكائيل أنّي قضيت على أحدكما بالموت فأيّكما
يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة كلاهما.
فأوحى الله تعالى إليهما: هلّا كنتما كعليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّد (صلى
الله عليه وآله)، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر، فاختار عليّ الموت وآثر محمّداً
بالبقاء وقام في مضجعه، إهبطا فاحفظاه من عدوّه، فهبط جبرئيل وميكائيل فقعد أحدهما
عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوّه ويصرفان عنه الحجارة، وجبرئيل يقول: "بخٍ
بخٍ لك يا ابن أبي طالب مَن مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سموات".
ثمّ خرج (صلى الله عليه وآله) ووصى علياً (عليه السلام) بحفظ ذمته وأداء أمانته
وقال له: إنّي مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربّي عليكما، وأمره أن يبتاع رواحل
له وللفواطم ومن أراد الهجرة معه من بني هاشم وغيرهم، وقال له: إذا قضيت ما أمرتك
فكن على أهبّة الهجرة إلى الله ورسوله، وانتظر قدوم كتابي إليك ولا تلبث بعده.
النبيّ (صلى الله عليه وآله) في المدينة:
وصل النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى قباء في شهر ربيع الأوّل وكان بانتظاره جمع
كبير من المهاجرين والأنصار، ولم يدخل المدينة إلّا بعد أن التحق به الإمام عليّ (عليه
السلام) في منتصف ذلك الشهر نفسه – كما ذكر الطبري في تاريخه - بعد أن أدّى عن
النبيّ (صلى الله عليه وآله) الودائع التي كانت عنده للناس، ثمّ دخل المدينة وكان
الناس باستقباله وكلٌّ يدعوه للنزول في داره والنبيّ (صلى الله عليه وآله) يبتسم
لهم ويشكرهم ويطلب منهم أن يخلوا سبيل ناقته التي بركت – في موضع المسجد النبويّ –
على باب أبي أيوب الأنصاري وبقي عنده حتّى أُقيم المسجد الشريف في بقعته المعلومة
الآن.
وبوصول النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، واستقراره فيها، عمل على إقامة
مجتمع إسلامي راسخ ومتماسك، واستلم فيها زمام الحكم كأوّل قائد في هذا المجتمع
الجديد بكلّ ما يرتبط بالحكم من شؤون السياسة والاقتصاد والإدارة والقضاء.
فكان أوّل شيء قام به هو بناء المسجد الذي أراده أن يكون مكاناً يجتمع فيه الناس
للعبادة وأداء فريضة الصلاة، وليكون أيضاً مدرسة للتعليم وندوة يجتمعون فيه للنظر
في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية، وملجأ للفقراء والمساكين يأوي إليه منهم من لا
يملك مسكناً ولا يجد من يؤويه.
وكان العمل الثاني الذي قام به هو المؤاخاة بين المسلمين وتوثيق عرى التعاون
والأخوة بينهم ولا سيما بين الأوس والخزرج، وقد تحقّق مبدأ المؤاخاة بشكلٍ لم ير
التاريخ له نظيراً قط، فحسبك أن المهاجري صار يرث الأنصاري في ماله بعد مماته دون
أرحامه حتّى نُسِخ ذلك بآية من كتاب الله، بعد معركة بدر:
﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ﴾ . وبلغ من نجاح عملية المؤاخاة أن
الأنصار قد شاعت بينهم المنافسة للحصول على المهاجر.
وفي المؤاخاة انفرد الإمام علي (عليه السلام) بما خصّه به النبيّ (صلى الله عليه
وآله) حيث اتّخذه أخاً مخاطباً إيّاه بقوله: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".
واستطاع
النبيّ (صلى الله عليه وآله) بفترة زمنية قصيرة أن يعبّئ نفوسهم بتعاليم الإسلام
والإيمان برسالته بالحكمة والموعظة الحسنة.
وبعد أن تجذّر الوجود الإسلامي في المدينة بادر النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى
مرحلة المواجهة والجهاد، ولقتال القوى الجاهلية المتمثّلة بقريش وكذلك اليهود حيث
عقد معهم العهود والمواثيق ولكنهم نقضوا كلّ العهود والمواثيق التي أبرمها معهم.
وبهذا انتقلت الدعوة إلى مرحلة جديدة من المواجهة الكبرى مع كلّ قوى الكفر والشرك
والإلحاد، وليتحوّل النبيّ (صلى الله عليه وآله) من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم.
* سماحة الشيخ خليل رزق. 2014-01-03