العفو والرحمة
مواعظ حسنة
عفا: في أَسماءِ الله تعالى "العَفُوّ"ُ، وهو فَعُولٌ من العَفْوِ، وهو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه، وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس، وهو من أَبْنِية المُبالَغةِ.
عدد الزوار: 1089
قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي
السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾1.
مقدمة:
عفا: في أَسماءِ الله تعالى "العَفُوّ"ُ، وهو فَعُولٌ من العَفْوِ، وهو التَّجاوُزُ
عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه، وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس، وهو من أَبْنِية
المُبالَغةِ.
يُقال: عَفَا يَعْفُو عَفْواً، فهو عافٍ وعَفُوٌّ. قال الليث: العَفْوُ عَفْوُ الله
عزّ وجلّ عن خَلْقِه، والله تعالى العَفُوُّ الغَفُور.
وكلُّ من اسْتحقَّ عُقُوبةً فَتَرَكْتَها فقد عَفَوْتَ عنه2.
إنّ من الفضائل الأخلاقية التي لا يصل الإنسان إلى مراتب الكمال دونها، هي صفة
العفو عن زلّات الآخرين وهفواتهم، وترك الانتقام منهم.
وهي من الصفات الإلهية والإنسانية، وعكسها أي الانتقام من الصفات الحيوانية، لذلك
نجد أنبياء الله وأوليائه المتّقين الذين يمثّلون بصدق معاني الإنسانية يتّصفون بها.
ومن هنا نرى أنّ القرآن الكريم يجعلها من صفات المحسنين، يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ
يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ
عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وعلى العكس من ذلك نجد أنّ الكافرين والمنافقين والفسّاق الجهلة والحكّام الظلمة
يتّسمون بصفة الانتقام.
الحثّ على العفو في الإسلام:
هذا والآيات القرآنية والروايات الإسلامية زاخرة في بيان فضيلة العفو والصفح وذمّ
روح الانتقام والثأر، وفي سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة
المعصومين عليهم السلام في هذا الباب الكثير من النماذج الراقية.
يقول سبحانه: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾3.
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾4.
يظهر من الآيتين المباركتين الحثّ على فضيلة العفو وأرجحيّته على المعاقبة بالمثل،
فإنّ العفو قد يكون له إيجابيّات أكثر من المعاقبة بالمثل، وذلك حسب اختلاف الأشخاص
والحالات. فعلى الإنسان الحكيم أن يُعْمِل حكمته لكي يعرف متى يعاقب بالمثل
ومتى يعفو.
بين العفو والعقاب:
هناك موارد يكون العفو والصفح فيها سبباً لجرأة المجرمين والمنحرفين، ولا شكّ أنّه
لا أحد يرى في العفو في مثل هذه الموارد فضيلة أخلاقية، بل إنّ حفظ نظام المجتمع
والنهي عن المنكر والتصدّي لمنع وقوع الجريمة تقتضي عدم التساهل مع المجرم، وترك
العفو في
مثل هذه الموارد، بل العمل بمقتضى العدل وما يفرضه من العقاب على المجرم.
ونجد في الأحاديث الإسلامية أيضاً إشارة إلى هذا الاستثناء، ومن ذلك ما ورد في
الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "العَفوُ يُفسِدُ مِنَ
اللَّئِيمِ بِقَدَرِ إِصلاحِهِ مِنَ الكَرِيمِ"5.
ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: "العَفوُ عَنِ المُقِرِّ لا عَنِ المُصِرِّ
عَفو"6.
وأيضاً ورد في الحديث الشريف عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً قوله:
"جـازِ
بِالحَسَنَةِ، وَتَجـاوَزَ عَنِ السَّيئَةِ مـا لَم يَكُن ثَلماً فِي الدِّينِ أَو
وَهناً فِي سُلطـانِ الإسلامِ".
ففي مثل هذه الموارد يجب التحرّك على مستوى إلحاق الجزاء العادل بالمسيء.
وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام في تأييد هذا المعنى، حيث قال:
"حَقُ مَنْ أَسـاءَكَ أَنْ تَعفُوَ عَنهُ، وَإِنْ عَلِمتَ أَنَّ العَفوَ عَنهُ يضِرُّ
انتصرت، قـالَ اللهُ تَبـارَكَ وَتَعـالَى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾7.
ولكن لا ينبغي أن يكون وجود هذا الاستثناء سبباً لسوء التصرّف في بعض الموارد، وأن
يجعلها بعض الناس ذريعة للانتقام في مورد العفو، بحجّة أنّ العفو هنا يتسبب في
زيادة الجرأة لدى المذنب والمجرم، بل ينبغي النظر بإخلاص، وبعيداً عن حالات التعصّب،
إلى أصل العفو والصفح وموارد الاستثناء بدقّة كبيرة، والعمل طبق هذه الموارد
والاستثناءات.
العفو عن الأرحام:
ومن الموارد التي يحسن فيها العفو، التعامل مع الارحام، فينبغي أن يحكّم التسامح
بينهم، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾8.
نقرأ في هذه الآية خطاباً لجميع المؤمنين في دائرة الاختلافات والنزاعات العائلية،
ولا شكّ أنّه لولا وجود العفو والصفح في أجواء العائلة من قبل الأب والولي على أمور
الأهل والأطفال، أو كان كلّ فرد من أفراد الأسرة يتحرّك في تعامله مع الآخرين من
موقع
الانتقام وأخذ الحقّ والمقابلة بالمثل، فإنّ هذه الأجواء الأسريّة ستتحوّل إلى مكان
يعيش فيها الأفراد القلق والاضّطراب الدائم وعدم الأمن والراحة، وبالتالي يتسبّب
ذلك في انهدام العائلة وتلاشيها.
الصفح:
ورد في بعض الآيات الحثّ على الصفح بعد العفو، يقول سبحانه: ﴿وَلَا يَأْتَلِ
أُوْلُوا الْفَضْلِ﴾﴿أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا
تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾9.
أما ما هو الفرق بينهما؟ فيقول الراغب في مفرداته، إنّ العفو بمعنى المغفرة، والصفح
ترك اللّوم والتوبيخ، والذي هو مرحلة أعلى من العفو، لأنّه يمكن أن يعفو الإنسان عن
الطرف المقابل إلاّ أنّه لا يترك لومه وتوبيخه أو معاتبته، ولكن بما أنّ الصفح في
اللغة
يعني الإعراض بالوجه عن الإنسان المذنب، فيمكن أن يكون إشارة إلى لزوم تناسي ذنب
المذنب ووضعه في زاوية الإهمال والغفلة ولا يكتفي بترك اللّوم فقط، أي أن لا يترتّب
أي أثر سلبي على العلاقة بين الطرفين.
الإحسان:
هناك مرتبة فوق العفو والصفح وهي مرتبة الإحسان في التعامل مع زلّات الاخرين، يقول
تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَصِفُونَ﴾10.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾11.
ويُستفاد من الآيتين أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك المؤمنين،
مأمورون بتجاوز حالة العفو والصفح والصعود إلى مرتبة أرقى منها، وردّ السيئة
بالحسنة، وهو العمل الذي لا يتيسّر من أي شخص كان، ولهذا فإنّ الآية التي بعدها
تقول: ﴿وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ﴾12.
وفي الحقيقة، فإنّ مقابلة السيئة بالحسنة عمل ثقيل جدّاً لا يستطيع النهوض به إلاّ
من أوتي القدرة على النهوض بالأعمال الخيّرة المهمّة، والذين يعيشون الإيمان
والتقوى والقيم الإنسانية بالمستوى الأعلى.
العفو والصفح والإحسان في مدرسة أهل البيت عليهم السلام:
يقول سبحانه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ﴾13.
الآية تأمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأوامر أخلاقية ثلاثة، ويتّضح
منها تكليف الآخرين أيضاً.
هذه التعليمات الثلاث التي وردت في الآية الشريفة بمثابة أوامر صادرة من الله تعالى
إلى نبيّه الكريم باعتباره قائداً للأمّة وأسوة حسنة لسائر المسلمين، وبذلك توضّح
في مضمونها أهميّة العفو والصفح في دائرة المسؤولية الملقاة على عاتق
القادة الإلهيين. فالأمر الأوّل من هذه الأوامر الإلهية هو الأمر بالعفو والصفح،
والأمر الثاني إشارة إلى أنّ على القائد أن لا يحمّل الناس فوق طاقتهم وقدرتهم، وأن
لا يطلب منهم سوى المعروف الممكن، وفي الأمر الثالث نجد التوصية بإهمال الكلمات
اللامسؤولة الصادرة عن الجاهلين والمخالفين، وعدم ترتيب الأثر على ما يرتكبونه تجاه
أتباع الحقّ من ممارسات سلبية وكلمات شانئة.
إنّ القادة الحقيقيين والسالكين طريق الحقّ يواجهون في مسيرتهم الإلهية الكثير من
الأفراد المتعصّبين والجاهلين والمعاندين، الذين لا يجدون فرصة للإيقاع بأصحاب
الحقّ وإيجاد الأذى والضرر بهم إلاّ استغلّوها. فالآية السابقة وكذلك الكثير من
الآيات القرآنية
الاُخرى تؤكّد على المؤمنين السالكين في خطّ الله والتقوى أن يجنّبوا أنفسهم الصراع
مع هؤلاء، وأنّ الأفضل لهم التعامل مع مثل هذه المسائل من موقع اللامبالاة والإهمال
والإعراض، والتجربة العملية تشير إلى أنّ أفضل طريق لإيقاظ هؤلاء من غفلتهم وإطفاء
نار غضبهم وصدّهم وتعصّبهم هو هذه الطريقة في التعامل معهم من موقع قوّة الشخصية
وكبر النفس.
وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه عندما نزلت
هذه الآية الشريفة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرائيل عن ذلك، فقال: لا
أدري حتّى أسأل العالم، ثمّ أتاه فقال: "يـا مُحِمَّد، إِنّ اللهَ يَأَمُرُكَ أَنْ
تَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ،
وَتُعطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ"14.
نماذج من عفو النبي وآله:
إنّ سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام
طافحة بمثل هذه النماذج من السلوكيات الأخلاقية والإنسانية، حتّى أنّه أحياناً
يؤدّي سلوكهم الإنساني هذا إلى انقلاب الطرف الآخر من موقع الشرّ والعداوة إلى موقع
الخير
والمحبّة، والتجارب العملية الكثيرة تشير إلى التأثير الكبير لهذه الأعمال
الأخلاقية في دائرة السلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعية.
عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُتي
باليهودية التي سمّت الشاة للنبي، فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إن
كان نبيّاً لم يضرّه، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه، فعفا رسول الله عنها"15.
وعفا صلى الله عليه وآله وسلم عن جماعة كثيرة، بعد أن أباح دمهم، وأمر بقتلهم،
ويكفينا نموذجاً راقياً في العفو ما كان منه من العفو عن كفّار مكّة عند فتحها.
ويروى أنّ شامياً رأى الإمام الحسن راكباً، فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلما فرغ،
أقبل الحسن عليه السلام فسلّم عليه، وضحك، فقال: "أيها الشيخ، أظنّك غريباً، ولعلك
شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو
استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت
محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت
رحلك الينا، وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً،
وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً". فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: "أشهد أنّك
خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله
إليّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل،
وصار معتقداً
لمحبّتهم"16.
وروي أنّ غلاماً للإمام الحسين عليه السلام جنى جناية توجب العقاب عليه، فأمر به أن
يُضرب، فقال: "يا مولاي، والكاظمين الغيظ، قال: خلّوا عنه. قال: يا مولاي، والعافين
عن الناس، قال: قد عفوت عنك، قال: والله يحبُّ المحسنين، قال: أنت حرّ لوجه
الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك"17.
ولكن الإمام الحسين عليه السلام عندما رأى أنّ الدين في خطر من يزيد ثار عليه، فليس
المحلّ محلّ عفو وصفح، إنّما المقام مقام جهاد ومقاومة.
بين القصاص والعفو:
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى
بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾18.
تتعرّض هذه الآية إلى الحديث عن مسألة القصاص، والتي تعدّ أحد الأحكام الاجتماعية
المهمّة في الإسلام، والتي تضمن حقوق الناس وتحفظ لهم أنفسهم ودماءهم من أشكال
العدوان، بحيث إنّ القرآن الكريم يعبّر عن القصاص بكلمة "الحياة".
وبعد أن تذكر الآية موارد القصاص بالمثل، تقول: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ
مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾19.
فلو أنّ القصاص تبدّل إلى الدية، فعلى الطرف الآخر أن يتّخذ سبيل المعروف في عملية
أداء الدية إلى وليّ المقتول، وهذا المعنى بمثابة التخفيف والرحمة من الله تعالى
للناس.
والتعبير بكلمة (أخيه) في الآية المذكورة يشير إلى أنّه حتى لو وقعت حادثة قتل بين
المسلمين، فإنّ ذلك لا يعني قطع رابطة الأخوّة بينهم، وفي صورة عدم وجود ضرورة
للقصاص فلا ينبغي اتّخاذه سبيلاً لحلّ الأزمة، وهذا التعبير يدلّ على أنّ الإسلام
يرجّح العفو
على القصاص، ويتحرّك من موقع تفعيل الشعور بالمحبّة والأخوّة لدى الأولياء بدلاً من
روح الثأر والانتقام.
وكذلك عبارة: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ تدلّ مرّة اُخرى على
المفهوم القرآني في ترجيح العفو والصفح على القصاص أو تبديله بالدية.
آثار العفو الفردية والاجتماعية:
إنّ العفو تجتمع فيه آثار إيجابية ومعطيات حميدة كثيرة في حركة الحياة الفردية
والاجتماعية، حيث يمكن بيان خلاصتها:
1- إنّ سلوك طريق العفو والصفح يمكنه أن يبدّل العدوّ الشرس أحياناً إلى صديق حميم،
وخاصّة فيما لو كان متزامناً بالإحسان إلى الطرف المقابل، أي بالإجابة بالحسنة
مقابل السيئة كما وردت الإشارة إلى ذلك في الآية: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ
وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾20.
2- إنّ العفو والصفح يتسبّبان في دوام الحكومات واستمرار القدرة السياسية بين ذلك
الحاكم الذي يمارس العفو مقابل أعدائه، حيث يقلِّل من حالة العداء والخصومة لدى
مخالفيه، ويزيد من جماعة الأصدقاء والمحبّين، ونقرأ ذلك في الحديث الشريف عن النبي
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "عَفوُ المُلُوكِ بَقـاءُ المُلكِ"21.
3- إنّ العمل بمقتضى العفو والصفح يتسبّب في زيادة عزّة الشخص وتقوية مكانته
وشخصيته في المجتمع، لأنّ ذلك علامة على قوّة الشخصية والشرف وسعة الصدر، في حين
أنّ ممارسة الانتقام والثأر يدلّ على ضيق الأفق وعدم التسلّط على النفس،
وانفلات قوى الشرّ وتسلّطها على الإنسان، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "عَلَيكُم بِالعَفوِ، فَإِنَّ العَفوَ لا يَزيدُ
إِلاّ عَّزاً"22.
4- إنّ العفو يقطع تسلسل الحوادث اللأخلاقية في واقع الناس من الحقد والبغضاء،
وكذلك السلوكيات الذميمة والقساوة والجريمة. وفي الواقع، فإنّ العفو بمثابة المحطّة
الأخيرة التي تقف عندها كلّ عناصر الشرّ هذه فلا يتجاوزها، لأنّ الانتقام والثأر
يتسبب من
جهة إلى تسعير نار الحقد في القلوب، ويدعوها إلى التعامل بقساوة أشدّ، ويفعّل فيها
الكراهية وعناصر الخشونة، وهكذا يستمرّ الحال في عملية تصاعدية، وأحياناً يؤدّي
الحال إلى نشوب معارك طاحنة بين طائفتين أو قبيلتين كبيرتين أو تسفك في ذلك الكثير
من الدماء وتدمّر الكثير من الطاقات والأموال والثروات.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "تَعـافُوا تَسقُطُ الضِّغـائِنُ
بَينَكُم"23.
5- إنّ العفو يتسبّب في سلامة الروح وهدوء النفس وسكينة القلب، وبالتالي يتسبّب في
طول العمر كما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ كَثُرَ
عَفوُهُ مُدَّ فِي عُمره"24.
وبالطبع، فما ذكرنا أعلاه هو من قبيل الآثار الإيجابية الدنيوية والبركات
الاجتماعية للعفو والصفح، وأمّا النتائج المعنوية والأجر والثواب الأخروي فأكثر من
ذلك بكثير، ونكتفي في هذا المعنى بحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه:
"العَفوُ مَعَ القُدرَةِ
جُنَّةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ سُبحـانَهُ"25.
* كتاب محاسن الكلم، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة آل عمران، الآيتان 133 – 134.
2- لسان العرب، ابن منظور، ج15، ص72.
3- سورة الشورى، الآية 40.
4- سورة النحل، الآية 126.
5- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج20، ص270، ح124.
6- المصدر نفسه، ص330، ح783.
7- ميزان الحكمة، ج3، ص2015، ح13225.
8- سورة التغابن، الآية 14.
9- سورة النور، الآية 22.
10- سورة المؤمنون، الآية 96.
11- سورة فصلت، الآيتان 34 – 35.
12- سورة فصلت، الآية 35.
13- سورة الأعراف، الآية 199.
14- الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج 4، ص 415، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت،
لبنان، الطبعة الأولى، 1995م.
15- الكافي، ج 2، ص 108.
16- بحار الأنوار، ج43، ص 344.
17- بحار الأنوار ج44، ص195.
18- سورة البقرة، الآية 178.
19- سورة البقرة، الآية 178.
20- سورة فصلت، الآية 34.
21- بحار الأنوار، ج74، ص168.
22- الكافي، ج2، ص108.
23- المتقي الهندي، كنز العمال، ج3، ص373، ح7004، مؤسّسة الرسالة، بيروت، لبنان،
1989م.
24- ميزان الحكمة، ج3، ح13184.
25- غرر الحكم.