آفة سوء الظنّ وآثارها الاجتماعية
مواعظ الكتاب
سوء الظن خصلة من أشنع الرذائل الأخلاقية، التي تؤدّي إلى الفرقة بين العوائل، وتمزّق المجاميع البشرية والإنسانية. وأوّل ثمرة سلبية لسوء الظن هي زوال الثقة بين الناس، وعندما تزول الثقة، فإنّ عملية التعاون والتكاتف
عدد الزوار: 112
قال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾1.ونقرأ
في نهج البلاغة قول الإمام علي عليه السلام : "لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَة خَرَجَتْ
مِنْ أَحَد سُوءً، وأَنتَ تَجِدُ لَهـا فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً مَحمَلاً"2.
مقدّمة:
سوء الظن خصلة من أشنع الرذائل الأخلاقية، التي تؤدّي إلى الفرقة بين
العوائل، وتمزّق المجاميع البشرية والإنسانية. وأوّل ثمرة سلبية لسوء الظن هي زوال
الثقة بين الناس، وعندما تزول الثقة، فإنّ عملية التعاون والتكاتف في حركة التفاعل
الاجتماعي ستكون عسيرة للغاية، ومع زوال التعاون والتكاتف في المجتمع البشري فسوف
يتبدّل هذا المجتمع إلى جحيم ومحرقة، يعيش فيه الأفراد حالة الغربة والوحدة من
الأفراد الآخرين، ويتحرّكون في تعاملهم من موقع الريبة والتشكيك والتآمر ضدّ
الآخر.ولهذا السبب، فإنّ الإسلام، ولأجل توكيد ظاهرة الاعتماد المتقابل بين الأفراد
والأمم،اهتمّ بهذه المسألة اهتماماً بالغاً؛ فنهى بشدة عن سوء الظن، ومنع الأسباب
التي تورث سوء الظن لدى الأفراد، وعلى العكس من ذلك، فإنّه مدح وأيّد بشدّة حسن
الظن الذي يفضي إلى زيادة المحبّة والاعتماد المتقابل والثقة بالطرف الآخر؛روي عن
النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم قوله: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنَ المُسلِمِ
دَمَهُ وَمـالَهُ وَعرِضَهُ وَأَنَّ يَظُنَّ بِهِ السُّوءَ"3.
1 - تعريف سوء الظن وحسن الظن:
عندما ترد هاتان المفردتان، ويراد بهما سوء الظن أو حسنه بالنسبة إلى الناس، فَإنّ
لهما مفهوماً واضحاً، فالمفهوم من سوء الظن هو أنّه كلّما صدر من شخص فعل معيّن
يحتمل الوجهين: الصحيح والسقيم، فنحمله على المحمل السقيم، ونفسّره بالتفسير السيّء،
مثلاً عندما يرى الشخص رجلاً مع امرأة غريبة، فيتصوّر أنّ هذه المرأة أجنبية، وأنّ
هذا الرجل ينوي في قلبه نيّة سوء تجاهها، ويريد ارتكاب المنكر معها، في حين أنّ حسن
الظن يقود الإنسان إلى القول بأنّ هذه المرأة هي زوجته أو أحد محارمه حتماً. ومن
هنا يتّضح أنّ دائرة حسن الظن وسوء الظن واسعة جدّاً، ولا تنحصر في ممارسة العبادات
فقط، بل تستوعب في مصاديقها ومواردها المسائل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية أيضاً.
وعندما تستعمل هاتان المفردتان بالنسبة إلى الله تعالى، فالمراد من حسن الظن بالله
هو أن يثق الإنسان بالوعد الإلهي في مورد الرزق أو العناية بالعبد أو نصرة المؤمنين
والمجاهدين، أو الوعد بالمغفرة والتوبة على المذنبين، وأمثال ذلك. ومعنى سوء الظن
بالله تعالى هو أنّ الإنسان عندما يجد نفسه في زحمة المشكلات والمصاعب، فإنّه قد
يعيش عدم الثقة بالوعد الإلهي، وعندما يقع في بعض الابتلاءات العسيرة وفي المسائل
المالية وغيرها، فإنّه قد ينسى وعد الله تعالى للصابرين، والذين يتحرّكون في خطّ
الاستقامة والانضباط والمسؤولية، ويتحرّك عندها في خطّ المعصية والإثم؛ روي عن
الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "لا إِيمـانَ مَعَ سُوءِ ظَنِّ"4.
2 - سوء الظن في القرآن الكريم:
لقد تحدّثت عدّة آيات كريمة عن هذا المرض الأخلاقي الفتّاك في الأفراد والمجتمعات،
نقتصر منها على آيتيتن:
الآية الأولى: سوء الظن بالناس: تستعرض الحديث عن سوء الظن، وتنهى المؤمنين بصراحة
وبشدة عن سوء الظن في تعاملهم الاجتماعي فيما بينهم، وتشير إلى أنّه قد يكون بمثابة
المقدمة إلى التجسّس والغيبة، وتقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾.5
وقد ورد في الآية التعبير "كثيراً من الظن" لأنّ أكثر أشكال الظن بين الناس
بالنسبة إلى الطرف الآخر تقع في دائرة السوء والشر؛ لذلك ورد التعبير بقوله
كثيراً.والملفت للنظر هو أنّ هذه الآية بعد النهي عن كثير من الظن، ذكرت العلّة في
ذلك، وقالت بأنّ بعض الظنون هي في الحقيقة إثم وذنب، وهو إشارة إلى أنّ الظنون
السيّئة قسمان: فمنها ما يطابق الواقع، ومنها ما يخالف الواقع. فما كان على خلاف
الواقع يكون إثماً وذنباً، وبما أنّ الإنسان لا يعلم أيّهما المطابق للواقع وأيّهما
المخالف، فيجب تجنّب الظن السيّء إطلاقاً؛ حتى لا يتورّط الإنسان في سوء الظن
المخالف للواقع، وبالتالي يقع في الإثم وممارسة الخطيئة؛ روي عن الإمام علي عليه
السلام قوله: "سُوءُ الظَّنِّ يُفسِدُ الأمور وَيَبعَثُ عَلَى الشُّرُورِ"6.
وبما أنّ سوء الظن بالنسبة إلى الأعمال الخاصّة للناس، يعدّ أحد أسباب التجسّس،
وأحد الدوافع التي تقود الإنسان إلى أن يتجسّس على أخيه، والتجسّس بدوره يتسبّب
أحياناً في الكشف عن العيوب المستورة للآخرين، وبالتالي سيكون سبباً ودافعاً للغيبة
أيضاً، لذلك فانّ الآية الشريفة تتحدّث عن سوء الظن أوّلا، وفي المرحلة الثانية
ذكرت التجسّس، وفي الثالثة نهت عن الغيبة.ولهذا اعتبره النبي صلى الله عليه واله
وسلم من أكذب الكذب، فروي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "إِيّاكُم
وَالظّنُّ؛ فَاِنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الكِذبِ"7، بل هو من أقبح
الظلم كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "سُوءُ الظَّنِّ بِالمُحسِنِ
شَرُّ الإِثمِ وَأَقبَحُ الظُّلمِ"8.
الآية الثانية: سوء الظن بالله تعالى:قال تعالى:
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ
السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾9.
تتحدّث هذه الآية عن سوء الظن بالنسبة إلى ساحة الربوبية، والحقيقة المقدّسة
الإلهية، فتقول: إنّ سوء الظن بالله تعالى من جانب هؤلاء، هو لأنّهم كانوا يتصوّرون
أنّ الوعود الإلهية للنبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم سوف لن تتحقّق أبداً، وأنّ
المسلمين مضافاً إلى عدم انتصارهم على العدو، فإنّهم لن يعودوا إلى المدينة إطلاقاً،
كما كان في ظن المشركين أيضاً حيث توهّموا أنّهم سوف يهزمون رسول الله وأصحابه،
لقلّة عددهم وعدم توفّر الأسلحة الكافية في أيديهم، وأنّ نجم الإسلام منذر بالزوال
والأفول، في حين أنّ الله تعالى وعد المسلمين النصر الأكيد، وتحقّق لهم ذلك، بحيث
إنّ المشركين لم يتجرّؤوا أبداً على الهجوم على المسلمين مع أنّ المسلمين في
الحديبية وعلى مقربة من مكّة كانوا تحت يدهم، ولم يكونوا يحملون أيّ سلاح، لأنّهم
كانوا قاصدين زيارة بيت الله الحرام، وهكذا ألقى الله تعالى الرعب والخوف في قلوب
المشركين، إلى درجة أنّهم خضعوا ووجدوا أنفسهم ملزمين بكتابة الصلح المعروف بصلح
الحديبية، ذلك الصلح الذي مهّد الطريق للانتصارات الباهرة التي نالها المسلمون فيما
بعد.
والملفت للنظر في هذه الآية أنّ مسألة سوء الظن بالله تعالى كانت بمثابة القدر
المشترك بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، وبيّنت هذه الآية أنّ جميع
هذه الفئات والطوائف شركاء في هذا الأمر، بخلاف المؤمنين الذين يحسنون الظنّ بالله
تعالى وبوعده وبرسوله الكريم، ويعلمون أنّ هذه الوعود سوف تتحقّق قطعاً، ولعلّ
تحقّقها قد يتأخّر فترة من الوقت لمصالح معيّنة، ولكنها أمر حتمي في حركة عالم
الوجود؛ لأنّ الله تعالى العالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا يمكن مع هذا العلم
المطلق والقدرة اللاّمتناهية أن يتخلّف في وعده.
ولا شك أنّ سوء الظن بالله تعالى يختلف كثيراً عن سوء الظن بالناس؛ لأنّ سوء الظن
بالناس غالباً ما ينتهي بارتكاب الإثم أو سلوك طريق خاطئ في التعامل مع الطرف الآخر،
في حين أنّ سوء الظن بالله تعالى يتسبّب في تزلزل دعائم الإيمان وأركان التوحيد في
قلب المؤمن، أو أنّه يكون دافعاً وعاملاً من العوامل لذلك؛ لأنّ الاعتقاد بأنّ الله
تعالى قد يخلف وعده يقع في دائرة الكفر، فخلف الوعد إمّا ناشئ من الجهل أو العجز أو
الكذب، ومعلوم أنّ كل واحد من هذه الأمور محال على الله تعالى، وأنّ الذات المقدّسة
منزّهة عن هذه الأمور السلبية؛ ولهذا السبب فإنّ الآيات محل البحث التي تستعرض سوء
الظن بالله تذمّ هذه الحالة بشدّة وعنف.
3 - مراتب سوء الظن:
يمكننا تقسيم سوء الظن إلى قسمين:
أ ـ سوء الظن اللّساني والعملي:
وهو سوء الظن الذي يتجسّد في أفعال الشخص وكلماته وأقواله، وهذا النوع من سوء الظن
هو المحرّم شرعًا والذي يترتّب عليه العقاب.
ب ـ سوء الظن النفسي:
وهو سوء الظن الذي لا يترتّب عليه أثر خارجي، وهو خارج تماماً عن دائرة
اختيار الإنسان وإرادته، ولا يمكن إزالته بشتى الوسائل، فمثل هذا الظن السيء لا
يكون مشمولاً للتكاليف الشرعية مادام الإنسان لم يرتّب عليه أثراً معيّناً. ولهذا
فإنّ سوء الظن هذا الذي يقفز إلى ذهن الإنسان بدون اختيار منه لا يكون مورد الذمّ
والعقاب لوحده، فلو أنّه لم يتجسّد في مرحلة العمل، ولم يرتّب الإنسان عليه أثراً
على مستوى الممارسة والكلام، ولم يصدر منه سلوك يشير إلى سوء الظن هذا، فإنّه لا
يقع مورد الذمّ ولا العقاب؛ ولذلك ذكر بعض علماء الأخلاق توثيقهم في هذا المجال:
وَأَمّا الخَواطرُ وَحَدِيثُ النَّفسِ فَهُو مَعفُوٌ عَنهُ... وَلَكنَّ المَنهِيَّ
عَنهُ أَنْ تَظُنَّ. والظَّنُّ عِبـارَةٌ عَمّا تِركَنُ إِلِيهِ النَّفسُ وَيَميلُ
إِلَيهِ القَلبُ".وقد ورد في بعض الروايات قوله عليه السلام: "وإِذا ظَننتَ
فلا تَحَقِّقْ"10. وورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه
قال: "اُطلُبْ لأخِيكَ عُذراً، فَانْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فَالتَمِسْ لَهُ
عُذراً"11.
4 - الآثار السلبيّة لسوء الظّن بالناس:
إنّ اتساع دائرة سوء الظن في المجتمعات البشرية يترتّب عليها آثار سلبية وخيمة
ومضرّات كثيرة،أهمّها ما يأتي:
أ- إنّ من أسوأ الآثار السلبيّة لهذه الرذيلة الأخلاقية على المستوى الاجتماعي، هو
زوال الثقة بين أفراد المجتمع، والذي يعدّ محور المجتمعات البشرية، والعنصر المهم
في عملية شدّ مفاصل المجتمع وتقوية الوشائج والعلاقات التي تربط بين أفراده، ومن
ذلك قول الإمام علي عليه السلام : "شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَثِقُ بِأَحَد لِسُوءِ
ظَنَّهِ وَلا يَثِقُ بِهِ أَحَذٌ لِسُوءِ فِعلِهِ"12.
فنجد أنّ المجتمع البشري الذي يسوده عدم الثقة بين أفراده،مثل هذا المجتمع
تتبخّر فيه أجواء التعاون والتكاتف وتزول منه البركات الكثيرة للحياة المشتركة في
حياة الإنسان نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي عليه السلام قوله: "مَنْ
سـاءَتْ ظُنُونُهُ،اعتَقَدَ الخِيـانَةَ بِمَنْ لا يَخُونُهُ"13.
ب- إنّ سوء الظن يؤدّي إلى تدمير وتخريب الهدوء النفسي والروحي لذلك المجتمع، كما
يميت الهدوء النفسي لأصحاب هذه الرذيلة الأخلاقية، فمن يعِش سوء الظن لا يجد الراحة
والاطمئنان في علاقته مع الآخرين، ويخاف من الجميع، وأحياناً يتصوّر أنّ جميع
الأفراد يتحرّكون للوقيعة به ويسعون ضدّه، فيعيش في حالة دفاعية دائماً، وبذلك
يستنزف طاقاته وقابلياته بهذه الصورة الموهومة.
ج- ومضافاً إلى ذلك، فإنّ في الكثير من الموارد نجد الإنسان يتحرّك وراء سوء ظنه،
ويترجم سوء الظن هذا إلى عمل وممارسة، وبالتالي يوقعه في مشاكل كثيرة، وأحياناً
يؤدّي به إلى ارتكاب جريمة سفك الدماء البريئة. وخاصة إذا كان سوء الظن يتعلّق
بالعرض والناموس، أو يتصوّر أنّ الآخرين يتآمرون عليه ويهدفون إلى الوقيعة به في
ماله أو عرضه، بحيث يمكن القول إنّ العامل الأصلي للكثير من الحالات الجنائية هو
سوء الظن، الذي لا يقف على أساس متين، والذي يدفع الإنسان إلى ارتكاب حالات العدوان
والجريمة بحقّ الأبرياء، ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "سُوءُ الظَّنِّ
يُفْسِدُ الأمُورَ وَيَبْعَثُ عَلَى الشُّروُرِ"14.
وعلى سبيل المثال، نشير إلى هذه الحادثة: دخل الطبيب النفسي يوماً ليعود مرضاه في
مستشفى المجانين والمتخلّفين عقلياً،فرأى رجلاً قد جيء به حديثاً إلى هذا المكان،
وهو يرّدد كلمة منديل مرّات عديدة، وعند ما بحث هذا الطبيب النفسي عن حاله، واستقصى
مرضه العقلي، رأى أنّ السبب في جنون هذا الشخص هو أنّه رأى يوماً في حقيبة زوجته
منديلاً يحتوى على قنينة عطر وبعض الهدايا المناسبة للرجال، فأساء الظن بزوجته فوراً،
وتصوّر أنّها على ارتباط برجل أجنبي؛ فكان أن قتلها بدافع من الغضب الشديد وبدون
تحقيق وفحص، وبعد أن فتح المنديل رأى في طيّاته ورقة كتب عليها، هذه هدية منّي إلى
زوجي العزيز بذكرى يوم ولادته. وفجأة، أصابته وخزة شديدة، وشعر بضربة عنيفة في
أعماق روحه، أدّت إلى جنونه، فكان يتذكّر هذا المنديل ويكرّره على لسانه.
د- إنّ سوء الظن يتسبّب في أن يفقد الإنسان أصدقاءه ورفاقه بسرعة، وبالتالي يعيش
الوحدة والانفراد والعزلة، وهذه الحالة هي أصعب الحالات النفسية الّتي يواجهها
الفرد في الحياة الاجتماعية؛ لأنّ كلّ إنسان يحترم مكانته وشخصيته، نجده غير مستعد
لأن يعيش ويعاشر الشخص الذي يسيء الظن بأعماله الخيرة وسلوكياته الصالحة ويتّهمه
بأنواع التهم الباطلة، وقد ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: "مَنْ
غَلَبَ عَلَيهِ سُوءُ الظَّنِّ، لَم يَترُكْ بَينَهُ وَبَينَ خَلِيل صُلحَاً"15.
هـ- إنّ سوء الظن باعتباره انحرافاً فكريّاً، فإنّه سيؤثّر بالتدريج على أفكار
الإنسان الأخرى، وسيقود تصوّراته وأفكاره في طريق الانحراف أيضاً، فتكون تحليلاته
بعيدة عن الواقع ومجانبة للصواب، فيمنعه ذلك من التقدّم، ونيل التوفيق في حركة
الحياة، وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "مَنْ
سـاءَ ظَنُّهُ، سـاءَ وَهمُهُ"16.
5 - الآثار السلبية لسوء الظن بالله:
إنّ لسوء الظن بالله تعالى، وعدم الثقة بالوعود الإلهية الواردة في القرآن الكريم
والأحاديث المعتبرة له، آثار سلبية مخرّبة في دائرة الإيمان والعقائد الدينية، حيث
يمثّل سوء الظن عنصراً هدّاماً لإيمان الشخص، ويبعده عن الله تعالى، كما قرأنا في
الروايات السابقة عن نبي الإسلام صلى الله عليه واله وسلم في مناجاة النبي داود
عليه السلام قوله: "يـا رَبِّ، مـا آمَنَ بِكَ مَنْ عَرَفَكَ فَلَم يُحسِنِ
الظَّنَّ بِكَ"17.ومضافاً إلى ذلك، فإنّ سوء الظن بالوعود الإلهية
يتسبّب في فساد العبادة وحبط العمل؛ لأنّه يقتل في الإنسان روح الإخلاص وصفاء القلب،
وقد ورد: "إِيِّاكَ أَنْ تُسِيءَ الظّنَّ، فَإنَّ سُوءَ الظّنِّ يُفسِدُ
العِبـادَةَ وَيُعَظِّمُ الوِزرَ"18.
6 - التخلّص من سوء الظن بحسن الظن:
سوء الظن يفضي إلى إيجاد الخلل والارتباك في المجتمع البشري، ويؤدّي إلى
سقوط الإنسان الأخلاقي والثقافي، ويورثه التعب والألم والشقاء والمرض الجسمي
والروحي، بينما نجد في المقابل بأنّ حسن الظن يتسبّب في أن يعيش الإنسان الراحة
والوحدة والاطمئنان النفسي؛ ولهذا السبب نجد أنّ الروايات تؤكّد على حسن الظن
بالنسبة إلى الناس، وكذلك بالنسبة إلى الله تعالى. أمّا في مورد حسن الظن بالنسبة
إلى الناس، وقدورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "حُسنُ الظَّنِّ مِنْ
أَفضَلِ السَّجـايـا وَأَجزَلِ العَطـايـا"19، وعنه عليه السلام قوله: "حُسنُ
الظَّنِّ يُخَفِّفُ الَهَمَّ، وَيُنجِي مِنْ تَقَلُّدِ الإِثمَ"20، بل
واعتبر عليه السلام أنّه يورث المحبّة فوردعنه عليه السلام أنّه قال: "مَنْ حَسُنَ
ظنُّهُ بِالنّاسِ، حـازَ مِنهُمُ المَحَبَّةَ"21.
أمّا بالنسبة إلى حسن الظنّ بالله تعالى، فقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه
السلام أنّه قال: "وَأَحسِنِ الظَّنَّ بِاللهِ، فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ: أَنا عِندَ ظَنِّ عَبدِي المُؤمِنِ بِي، إنْ خَيراً فَخَيرٌ وَإِنْ شَرَّاً
فَشَرٌّ"22.
وورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "وَالَّذِي لا إِلـه
إِلاّ هُوَ، لا يَحسُنُ ظَنُّ عَبدٍ مُؤمِن بِاللهِ، إِلاّ كـانَ اللهُ عِندَ ظَنِّ
عَبدِهِ المُؤمِنِ؛ لأَنَّ اللهَ كَرِيمٌ، بِيَدِهِ الخَيراتُ، يَستَحِيي أَنْ
يَكُونَ عَبدُهُ المُؤمِنُ قَدْ أَحسَنَ بِهِ الظَّنَّ، ثُمَّ يُخلِفُ ظَنَّهُ
وَرَجـاءَهُ؛ فَأَحسِنُوا بِاللهِ الظَّنَّ، وَارغَبُوا إِلِيهِ"23.
1-الحجرات، 12.
2- نهج البلاغة، الكلمات القصار، ح360.
3- الفيض الكاشاني،المحجة البيضاء، ج5، ص268.
4-الواسطي، عيون الحكم والمواعظ،ص536.
5-الحجرات، 12.
6- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ،ص283.
7-المحجة البيضاء، ج5، ص268.
8- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص284.
9- الفتح، 6.
10- المحجة البيضاء، ج5، ص268.
11-بحار الأنوار، ج72، ص196، ح15.
12-ابن أبي الحديد، شرح النهج،ج18، ص379.
13-الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص436.
14-الواسطي، عيون الحكم والمواعظ،،ص 283.
15-الواسطي، عيون الحكم والمواعظ،ص433.
16-الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص430
17-بحار الأنوار، ج67، ص394.
18-غرر الحكم،ح 2709.
19- السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة،ج14، ص173.
20- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ،ص228
21-الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص435.
22-أصول الكافي، ج2، ص72، ح3.
23-بحار الأنوار، ج67، ص365، ح14.