يتم التحميل...

حتمية الموت

الموت والبرزخ

كما لخّص القرآن الكريم مسيرة الإنسان في أربع رحلات: رحلة المادة، رحلة الحياة الدنيا، رحلة الإماتة ورحلة البعث، فقد لخّص الرحلة الثانية بقوله تعالى:

عدد الزوار: 324

مراحل الإنسان في الدنيا

كما لخّص القرآن الكريم مسيرة الإنسان في أربع رحلات: رحلة المادة، رحلة الحياة الدنيا، رحلة الإماتة ورحلة البعث، فقد لخّص الرحلة الثانية بقوله تعالى: (اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخرٌ بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً).

يفسر ثلة من العلماء هذه الآية بأنها المراحل المتتالية في حياة الإنسان في الدنيا
الأولى: مرحلة اللعب، وتكون في عمر الأطفال.
والثانية: مرحلة اللهو، وتكون في عمر الناشئة.
والثالثة: مرحلة الزينة، وتكون في عمر الشباب
والرابعة: مرحلة التفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد وتكون في زمن الشيخوخة.

العمر السريع

لكن هذه المراحل كيف تتم؟ بأية سرعة تجري؟

ورد أن جبرئيل عليه السلام سأل نبي الله نوحاً الذي عاش ألفاً إلا خمسين عاماً، قيل إنه زمن تبليغ قومه، أما عمره فكان أكثر من ذلك: يا أطول الأنبياء عمراً، كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ألا يصدّق كل منا في وجدانه ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر".

وقد نسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام شعر يقسم فيه عمر الإنسان السريع بقوله:
لو عاش الفتى ستين عاماً***فنصف العمر تمحقه الليالي
ونصف العمر يذهب ليس يدري***لغفلة يميناً عن شمال
وباقي العمر أسقام وشيب***وهم بارتحال وانتقال
فحبُّ المرء طول العمر جهل***وقسمته على هذا المثال



وتأتي ساعة الموت:

وعلى حين غفلة من الإنسان يأتيه ملك الموت، حينها يعرف الإنسان أهمية الوقت الذي طالما أضاعه، وقد ورد أنه حينما يعرف بحلول أجله فإنّه يتمنّى أن يعيش ساعة يتدارك فيها تفريطه ولو كان مقابلها كلّ الدنيا لو كانت له، لكنه لا يجد لذلك سبيلاً يقول لملك الموت: أمهلني يوماً، فيجيبه: قد ضيّعت الأيام، ثم يحاول مرّة أخرى قائلاً له: أمهلني يوماً، فيجيبه: قد ضيعت الأيام، ثم يحاول مرة أخرى قائلاً له: أمهلني ساعة، أتدارك فيها، فيجيبه: قد ضيّعت الساعات.

حينها يعرف الإنسان الحقيقة التي طالما هرب منها، ألا وهي حتمية الموت.

ليلتفت الإنسان إلى هذه الحقيقة في حياته قبل الموت صاغ القرآن الكريم المرحلة الثالثة من مسيرة الإنسان بقوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)، فاللافت في هذه الآية هو التأكيد المشدَّد فـ "إنّ" حرف توكيد و"اللام" في "لميتون" هي أيضاً حرف توكيد، مع أن حتمية الموت بديهية وليست نظرية، لكن الناس يتعاملون مع الموت من غير تحديق به نحو أنفسهم، وهم بذلك كما يتعاملون مع الشمس من غير تحديق بها بل من خلال رؤية آثارها على الآخرين فقط، وهكذا يرى أكثر الناس الموت من خلال حلوله على غيرهم لا عليهم وقد لفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك وهو يخطب على ناقته قائلاً: "أيها الناس، كأنّ الموت فيها على غيرنا كُتب، وكأنّ الحقّ على غيرنا وجب، وكأن ما نسمع من الأموات سفرٌ عما قليل إلينا راجعون، نُبَوِّؤهم أجداثهم، ونأكل تُراثهم كأنا مخلّدون بعدهم".

وكما يقول الشاعر:
والموت يأتي بعد ذلك كله***وكأنه يعني بذاك سوانا

لقد عبر عن هذا المسلك الإنساني تجاه الموت أمير المؤمنين علي عليه السلام بكلمة في غاية البلاغة قال فيها: "لم يخلق الله يقيناً لا شك فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من الموت".

فالموت وإن كان يقينياً عند الإنسان، لكن حبَّه للبقاء والخلود يجعله في مقام التعامل مع الحياة والسلوك فيها كأنه سيبقى حياً خالداً، ومما يزيد في هذا السلوك خوفه من الموت، ولكن أمير المؤمنين عليه السلام يجيب من هكذا حاله وهم أكثر الناس "فما ينجو من الموت من خافه، ولا يُعطى البقاء من أحبه".

الهروب من الموت

من المؤكد أن كثيراً من الناس لو عرفوا وسيلة تدفع عنهم الموت لبذلوا للحصول عليها كامل جهدهم ولو بخوض البحار وصعود القمم وبذل الغالي والنفيس، لكن – وكما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام -: "لو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، ولدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود الذي سخّر له ملك الجن والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة، فلما استوفي طعمته، واستكمل مدته رمته قُسَيُّ الفناء بنبال الموت وأصبحت الديار منه خالية، والمساكن معطلة، وورثها قوم آخرون".

ولأن نبي الله سليمان عليه السلام كان يعرف هذه الحقيقة فإنه كان يقول: "لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود، لأن ثواب التسبيحة يبقى وملك سليمان يفنى".

سلطة ملك الموت

وكيف يهرب الإنسان من ملك الموت، وقد أعطاه الله تعالى السلطة الواسعة التي تحدث عنها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم في رواية الإسراء قائلاً: "لما أُسريَ بي إلى السماء رأيت مَلَكاً من الملائكة بيده لوح من نور لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، مقبلاً عليه كهيئة الحزين، فقلت: من هذا يا جبرائيل؟! فقال: هذا مَلَك الموت مشغول في قبض الأرواح، فقلت: أدنني منه يا جبرائيل لأكلمه، فأدناني منه، فقلت له: يا مَلَك الموت، أكلُّ من مات أو هو ميت فيما بعد أنت تقبض روحه؟ قال: نعم، قلت: وتحضرهم بنفسك؟ قال: نعم، ما الدنيا عندي فيما سخرها الله لي، ومكنني منها إلا كدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دارٍ في الدنيا إلا وأدخلها في كل يوم خمس مرات، وأقول إذا بكى أهل البيت على ميتهم: لا تبكوا عليه، فإن لي إليكم عودة وعودة حتى لا يبقى أحد منكم".

ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام حينما سئل عن لحظة ملك الموت، قال: "أما رأيت الناس يكونون جلوساً فتعتريهم السكتة فما يتكلم أحدٌ منهم، فتلك لحظة ملك الموت حيث يلحظهم".
لقد بيَّن الإمام الهادي عليه السلام حتمية الموت للإنسان مهما علا شأنه وارتفع مقامه من خلال قصيدة وعظ بها المتوكل المتغطرس قائلاً:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم***غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عزٍ عن معاقلهم***فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا***أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعّمة***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا***فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم***ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادخروا***فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطلةً***وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا


إنه تطبيق قصائدي لقوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة).

سلام الله تعالى على أمير المؤمنين عليه السلام القائل: أنتم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم.

عبرة طريفة

من جميل العبر المنقولة حول الهروب من الموت ما يُحكى عن رجل كان في مجلس نبيّ الله سليمان عليه السلام، وفي ذلك المجلس أرسل الله تعالى ملك الموت في صورة يُمكن للآخرين مشاهدتها ومعرفته من خلالها، فإذا بملك الموت عليه السلام ينظر إلى ذلك الرجل ويحدِّق به بتعجب وانبهار، لاحظ الرجل تحديق ملك الموت عليه السلام به، فهلع قلبه، وذهب إلى نبي الله سليمان عليه السلام طالباً منه أن ينقله إلى الهند، لبعدها الشاسع عن ذلك المكان، فأمر نبي الله الرياح أن تنقله إليها، ثم بعد ذلك بفترة قابل النبي سليمان عليه السلام ملك الموت، فسأله عن سبب ذلك، فأجابه: لا يا نبي الله، لكن الله تعالى كان قد أمرني أن أقبض روحه بعد ساعة في الهند، فحينما رأيته في مجلسك أصابني العجب من ذلك، لكني بعد ساعة ذهبت إلى الهند وقبضت روحه هناك.

لماذا الهرب من الموت؟

من يعتقد أن الموت عدمٌ لحياته فإنه يهرب من التخلي عن الوجود، ولكن ما بال من يؤمن بأن الموت "قنطرة" أي جسر لحياة أخرى كما هو تعبير الإمام الحسين عليه السلام ؟

إن الجواب الواضح أتى من الإمام الحسن المجتبى عليه السلام حين سأله بعضهم: يا بن رسول الله، ما بالنا نكره الموت ولا نحبه؟ فأجابهم عليه السلام: "إنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب".

إن الكراهة ليست للموت وإنما لعدم الجهوزية والاستعداد لما بعد الموت.

وفي تطبيق عملي لهذا الأمر ورد أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما لي لا أحب الموت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له، "ألك مال"؟ قال، نعم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فقدمته"؟ قال، "لا، قال صلى الله عليه وآله وسلم فمن ثم لا تحب الموت".

ذكر الموت

وبما أن كره الإنسان وهروبه من الموت ليس لنفس الموت، بل لمعاصيه وآثامه التي يخاف من نتائجها أراد الله تعالى له أن يذكر الموت كرادع عن تلك المعاصي والآثام، فورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، وأفضل التفكر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة".

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أكثروا ذكر الموت ويوم خروجكم من القبور وقيامكم بين يدي الله عز وجل يهون عليكم المصاب".

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: فما جلاؤها؟ قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن".

سلام الله على أمير المؤمنين عليه السلام حينما ذكر الموت وأهله وهو عائد برفقة أصحابه من معركة صفين، فتوقف عند مقبرة الكوفة وراح يخاطب أصحاب القبور فيها قائلاً: "يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق. أما الدور فقد سكنت وأما الأزواج فقد نكحت وأما الأموال فقد قسمت. هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه، فقال: "أما لو أذن لهم في الكلام؟ لأخبروكم أن خير الزاد التقوى".

قصة معبـِّرة

ومن لطيف ما ورد في سِيَر ذاكري الموت قصة ذلك الشاب من الأنصار الذي كان يأتي عبد الله بن العباس، وكان عبد الله يكرمه ويدنيه، فقيل له: إنك تكرم هذا الشاب وتدنيه، وهو شاب سوء يأتي المقابر فينبشها بالليالي، فقال عبد الله بن العباس: إذا كان ذلك فأعلموني، فخرج الشاب في بعض الليالي يتخلل القبور، فأُعلم عبد الله بن العباس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره، ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشاب، فدخل الشاب قبراً قد حُفر، ثم اضطجع في اللحد، ونادى بأعلى صوته: "يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي، ونطقت الأرض من تحتي فقالت: لا مرحباً بك ولا أهلاً، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري، فكيف وقد صرت في بطني؟! بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفاً والملائكة صفوفاً، فمن عدلك غداً من يخلصني، ومن المظلومين من يستنقذني، ومن عذاب الناس من يجيرني، عصيتُ من ليس بأهلٍ أن يُعصى، عاهدت ربي مرة بعد أخرى، فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاءً"، وجعل يردد هذا الكلام ويبكي، فلما خرج من القبر التزمه ابن العباس وعانقه، ثم قال: نِعمَ النبّاش! نِعمَ النبّاش! ما أنبشكَ للذنوب والخطايا.


* نداء الرحيل، الشيخ أكرم بركات.

2013-09-19