واعبدوا الله
وصايا قرآنية
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا
عدد الزوار: 202
قال تعالى:
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ
مُخْتَالاً فَخُورًا
﴾1.
تبتدئ الآية بالوصيّة الأساسيّة التي تمثِّل، هي، وما تلاها
﴿وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ
شَيْئً
﴾ القاعدة الأولى لبقيّة الوصايا.
معنى العبادة
يُطلق لفظ العبادة، في معناه الأصلي، على الفعل الذي يكون طيِّعًا ليّنًا مذلّلاً
بحيث لا يكون فيه عصيان ولا مقاومة.
لذا سُمّيت الطريق، التي لم تَعُدْ أحجارها وأشواكها تؤذي المارة، بل أصبحت ليّنة
مذلّلة، بأنّها "طريق معبّدة"2.
عبادة الله
بناءً على ما سبق، فإنّ عبادة الله تعني أن يسلك الإنسان سبيل الله، وطريقه بليونة،
وطواعية، ومن هنا أطلق لفظ الطاعة مقابل المعصية، التي هي من العصيان.
سبيل الله وصراطه
إذاً للعبادة طريق يسلكها العابد بطواعيّة، وهذا ما يوضح لنا السرّ في استخدام
القرآن الكريم لمصطلحين: "سبيل الله"، و"الصراط"، في كثير من الآيات، نعرض منها:
سبيل الله
1
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
﴾3.
2
﴿وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ
﴾4.
3
﴿ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
﴾5.
الصراط
1
﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
﴾6.
2
﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
﴾7.
3
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
﴾8.
4
﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
﴾9.
عبادة الله مقابل عبادة الآخرين
والإنسان في حياته لا يمكن أن يخرج من العبودية، فالناس لا يصنّفون بين عبد وغير
عبد، فالجميع عابدون، إلاّ أنّ الكلام في معبودهم، لذا طرح القرآن الكريم أنواعًا
للمعبودين من دون الله تعالى، وهم:
1- عبادة الهوى
قال تعالى:
﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
﴾10.
فالمعبود هنا هو الهوى، والميل نحو ما تشتهيه النفس البشريّة.
2- عبادة الزعيم
قال تعالى:
﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ
﴾11.
إنّه حديث كليم الله موسى عليه السلام مع فرعون، حينما ذكّره بتربيته له، فأجابه
نبيّ الله عليه السلام مستنكرًا منّته، وقد عبّد فرعون بني إسرائيل.
فما معنى أنّه عبّدهم؟
إنّ بني إسرائيل عليه السلام في زمن فرعون كانوا موحّدين يعبدون الله تعالى، إلاّ
أنّ فرعون أذلّهم، وأجبرهم على طاعته، والعمل لأجله، بحيث أصبحوا يطيعونه بتذلّل
ولين دون عصيان، وهذا معنى تعبيده لهم.
3- عبادة رجل الدين
قال تعالى:
﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ
اللّهِ
﴾12.
إنّه حديث عن اليهود والنصارى الذين يعبدون الله تعالى، إلاّ أنّهم في سلوكهم
العمليّ يطيعون رجال ديانتهم من دون تحكيم الله تعالى في هذه الطاعة.
وهذا ما يوضح لنا سرّ تأكيد القرآن الكريم على أن تكون طاعة رسول الله وأوليائه
منطلقة من طاعة الله تعالى، قال عزّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ
﴾13.
4- عبادة الإنسان
اختصر القرآن الكريم رفضه لعبادة غير الله من الناس، برفض عبادة أيّ إنسان، قال
تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ
﴾14.
العبادة والحريّة
يُفهم من العرض المتقدّم أنّ عبادة الإنسان لله تعالى تعني تحرّره من عبادة الهوى،
والزعماء، والأحبار، والرهبان، بل من كلّ إنسان.
فعبادة الله تعني الحريّة الحقيقيّة.
من هنا حينما نذرت امرأة عمران أن يكون طفلها عبدًا لله، وفي خدمة الله تعالى دون
غيره، قالت:
﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرً
﴾15.
ومن هنا ورد أنّ الإمام موسى الكاظم عليه السلام مرّ أمام دار بِشر، فسمع منها
الغناء واللهو، ورأى على باب الدار جارية، فقال لها: "أيتها الجارية، مولاك حرٌّ أم
عبد"؟
فقالت: حرّ.
فقال عليه السلام: "صدقتِ، لو كان مولاك عبدًا لعمل بمقتضى العبوديّة، وخاف الله
تعالى".
فذهبت الجارية إلى داخل الدار، وأخبرت بِشرًا بذلك، فأثّر فيه هذا الكلام، وخرج
حافيًا إلى خارج الدار، وجعل يركض خلف الإمام حتى وصل إليه، فوقع على قدميه، وتاب
على يده، وأناب، وبقي حافيًا طول عمره16.
ومن هنا كان التنويه الإلهيّ الأوّل لخاتم الأنبياء، وسيّد بني البشر، أنّه عبد لله،
فقد علّمنا الله تعالى أنّه حينما نشهد على أنفسنا شهادة الإيمان في الصلاة نقول: "أشهد
أن محمّدًا عبده ورسوله"، فنقدّم عبد الله على رسول الله، لأنّ عبوديّة محمد صلى
الله عليه
وآله وسلم لله هي التي جعلته رسولاً.
قاعدة العبادة
من اللافت أنّ غاية الخلق عُبّر عنها في النصوص الدينية بعنوانين:
الأول: العبادة، وذلك في قوله تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ
﴾17.
الثاني: المعرفة، وذلك في الحديث القدسي: "كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أعرف،
فخلقت الخلق لكي أعرف"18.
إنّ التأمّل في هذين النصّين يبعد الاختلاف بينهما، لأنّ العبادة الحقيقيّة لله هي
التي تنطلق من المعرفة، وعلى رأسها:
معرفة الله تعالى
إنّ من يعرف كمالات الله فإنّه يسلك في طاعته بلين، وسهولة، وتذلّل، واطمئنان،
واستقرار، واقتناع.
ومن باب التطبيق، فإنّ من يعرف أنّ الله تعالى غنيٌّ، وليس بحاجة إلى شيء، وأنّه
حكيمٌ، يضع الأمور في مواضعها المناسبة، وبالتالي فإنّ ما يشرّعه لنا هدفه كمالنا
نحن، وسعادتنا نحن، سواء أعرفنا تفاصيل ذلك أو لا. إنّ من يعتقد هذا الاعتقاد بشكل
كامل،
فإنّه يسير في التكليف الإلهيّ بانسياب تامّ، فلا يكون حاله كالولد الصغير الذي
يوقظه والداه للذهاب إلى المدرسة، فيشعر بالضيق، ويحاول التمرّد، لأنّه جاهل أنّ
ذلك ينصبّ في مصلحته، أو كالطفل الذي يتهرّب من الدواء لعدم درايته بأنّه نافع له.
وكذا فإنّ من يريد قضاء حاجة له، وهو يعتقد بأنّ الله تعالى غنيٌّ غير محتاج، كريم
لا بخل في ساحته، عالم بكلّ شيء، ومنه حاجته، قادر على أن يقضيها له، حكيم لا يفعل
إلاّ المناسب، وما فيه المصلحة، فإنّه يتعامل مع عدم قضاء الحاجة دون اعتراض
وتملّل،
بل بتسليم وتوكّل.
من هنا وردت النصوص الدينيّة القرآنية، والنبويّة، والإماميّة تحكي أسماء الله
تعالى وصفاته، باعتبار أنّ معرفة الله من خلال الأسماء والصفات هي القاعدة
الأساسيّة للعبادة الحقيقيّة.
معرفة الهداة
إنّ معرفة الله تعالى، من خلال صفة الحكمة، تؤدّي بالإنسان إلى معرفة الهداة إلى
سبيل كماله، إذ بدونهم، وبالاعتماد على قوى الإنسان وحده، لا يمكن للإنسان أن
يتعرّف على الطريق التي يؤدّي سلوكها إلى الكمال، وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادق
عليه
السلام في الدعاء، الذي اشتهر بدعاء الغيبة، فقد ورد عنه: "اللهمّ عرّفني نفسَك،
فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرفْ نبيَّك، اللهمّ عرّفني رسولَك، فإنّك إن لم
تعرّفني رسولَكَ لم أعرفْ حجَّتَك، اللهمّ عرّفني حجّتَكَ، فإنّك إن لم تعرّفني
حجَّتَكَ ضلَلْتُ عن
ديني"19.
معرفة السبيل
إنّ صفة الحكمة الإلهيّة، كما تؤدّي إلى معرفة الهداة، فإنّها تدعو إلى معرفة
الطريق والسبيل إلى الكمال الإنسانيّ، والذي تحدّثنا عنه سابقًا، وقد أرشد القرآن
الكريم إلى عناوين عديدة، دعا إلى إيجادها في سبيل الله تعالى، من قبيل:
1- إنفاق الأموال
قال تعالى:
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ
﴾20.
2- الهجرة لأجل الدين
قال تعالى:
﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا
كَثِيرًا وَسَعَةً
﴾21.
3- القـتال
قال تعالى:
﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
﴾22.
4- الشهادة
قال تعالى:
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا
﴾23.
كما أرشد القرآن الكريم إلى عقبات غايتها أن تصدّ عن سبيل الله، ودعا الناس إلى
الالتفات إليها، كي لا يضلّوا عن الصراط، ومن تلك العقبات:
1- الشيطان
قال تعالى: "
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ فَهُمْ
﴾24.
2- الكافرون
قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ
ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا
﴾25.
3- اليـهود
قال تعالى:
﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن
سَبِيلِ اللّهِ
﴾26.
إنّ هذه الآيات تدعو الإنسان، وهو سائر في السبيل، أن يلتفت إلى عدوّه الداخلي،
وأعدائه في الخارج، فمن الداخل يحاول الشيطان أن يحرفه عن عبادة الله تعالى عبر
تغيير الصورة، بتزيين العمل القبيح إلى ما يوحي بالجمال والزينة، وهذا يقتضي من
المؤمن أن
يتعرّف على الشيطان، وحبائله، وأن يستعيذ منه بالله تعالى.
ومن الخارج يحاول أعداء الله من الكافرين، واليهود المنحرفين، أن يصدّوه عن سبيل
الله، وهذا يقتضي من الإنسان المؤمن أن يكون واعيًا لمجريات الأمور في المجتمع، ذا
بصيرة بالسياسة والمؤامرات التي تُحاك ضدّ المؤمنين، وما أكثرها هذه الأيام!
إنّ غير الواعي، وغير الكيّس الفطن لشيطان الداخل والخارج قد يظنّ نفسه مؤمنًا،
لكنّه يكون في الواقع من
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
﴾27.
يعتقدون أنّهم يعبدون الله، وهم يعبدون غيره.
* آية الوصايا العشر، الشيخ أكرم بركات.
1 سورة النساء، الآية 36.
2 أنظر: ابن فارسٍ، أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1402هـ، ج4، ص205-206.
3 سورة الأنفال، الآية: 72.
4 سورة آل عمران، الآية: 195.
5 سورة آل عمران، الآية: 157.
6 سورة آل عمران، الآية: 51.
7 سورة آل عمران، الآية: 101.
8 سورة الأنعام، الآية: 153.
9 سورة الشورى، الآية: 53.
10 سورة الجاثية، الآية 23.
11 سورة الشعراء، الآية 22.
12 سورة التوبة، الآية 31.
13 سورة النساء، الآية 59.
14 سورة آل عمران، الآية 64،
15 سورة آل عمران، الآية 35.
16 الأمين، محسن، أعيان الشيعة، (لا،ط)، بيروت، دار التعارف، (لا،ت)، ج3، ص579.
17 سورة الذاريات، الآية 56.
18 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تحقيق ابراهيم الميانجي ومحمد الباقر البهبودي، ط2، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1983م،،ج84، ص199.
19 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق علي أكبر الغفاري، ط5، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363، ج1، ص337.
20 سورة البقرة، الآية 261.
21 سورة النساء، الآية 100.
22 سورة البقرة، الآية 224.
23 سورة آل عمران، الآية 169.
24 سورة النمل، الآية 24.
25 سورة النساء، الآية 167.
26 سورة النساء، الآية 160.
27 سورة الكهف، الآيتان 103-104. 2013-08-07