يتم التحميل...

الطفل بين الحياء الممدوح والمذموم

تربية الأبناء

من الصفات الذميمة التي قد تصيب الإنسان منذ طفولته، وتلازمه حتى نهاية عمره بصورة مرض مزمن يؤلم صاحبه، الخجل المفرط والحياء في غير محله. هذه الحالة النفسية تنبع من الشعور بالخسة وعقدة الحقارة في الغالب.

عدد الزوار: 96

قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ(المائدة:54).

الخجل المفرط

من الصفات الذميمة التي قد تصيب الإنسان منذ طفولته، وتلازمه حتى نهاية عمره بصورة مرض مزمن يؤلم صاحبه، الخجل المفرط والحياء في غير محله. هذه الحالة النفسية تنبع من الشعور بالخسة وعقدة الحقارة في الغالب.

ما أكثر التلاميذ الذين درسوا بكل جد وتتبع، واستوعبوا المناهج الدراسية بإتقان، ولكنهم أصيبوا في الإمتحان وفي القسم الشفوي منه بالخصوص بالخجل والحياء الشديدين بسبب ضعف النفس، فخسروا المعركة... وكأنهم لم يقرأوا شيئاً، أو نسوا ما قرأوه تماماً، وبالتالي عجزوا عن الجواب وحصلوا على درجات متدنيّة، وبالنتيجة حرموا من التقدم المعتاد في السنوات الدراسية.

وما أكثر الأطفال الذين لا يملكون الجرأة على الإتصال بالناس على أثر الخجل المفرط، فيشعرون بالحقارة والدونية، ويتخفون من المشاركة في المجالس العامة والإتصال بالأشخاص، حتى أنهم يمتنعون أحياناً عن الذهاب الى بيوت أقاربهم والتحدث معهم نظراً لما يحسون به من خجل وحياء.

تألم الروح

هناك عوامل عديدة تتسبب في ظهور صفة الحياء المفرط والخجل الشديد عند الأطفال... ولكن الجامع بينها هو السلوك المصحوب بالتحقير والاهانة تجاه الطفل.

إن الطفل الذي يقع موقع السخرية والتحقير من الآخرين منذ الصغر وتألمت روحه على أثر الضربات المتتالية، يرى نفسه حقيراً وتافهاً ويشعر بالضعة والدونية. إن طفلاً كهذا يصاب بالانفعال والخجل، ومن البديهي أن يتخوف من الاتصال بالناس.

"إن الخلود والفرار من المجتمع، والمظاهر الاخرى المشابهة لذلك كالخجل وحب الانزواء... وليدة كون الشخص معرضاً للاهمال والتحقير في دور الطفولة أو البلوغ في الغالب. ولا يمكن أن نجد علة لذلك غير ما ذكر، بمعنى أن الشخص عندما يتعرض للتحقير من قبل الآخرين، ويبقى أثر ذلك في مخيلته، فلا شك في أنه يشعر بالحقارة والتفاهة في نفسه تجاه المجتمع"1.

الحياء المعقول وغير المعقول

الحياء عبارة عن الشعور بالانفعال والانكسار النفسي نتيجة للخوف من اللوم والتوبيخ من الآخرين. هذا الحالة النفسية تكون صحيحة ومناسبة في بعض الحالات وتعتبر من الصفات الطيبة، وتكون تافهة وغير مناسبة في حالات اخر وتعتبر من الصفات الذميمة.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق. فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل"2.

"عن الامام الصادق عن آبائه عليهم السلام، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: الحياء على وجهين، فمنه الضعف ومنه قوة... وايمان"3.

يجب على الوالدين في المنهج التربوي الذي يتخذانه تجاه طفلهما أن ينميا فيه الشعور بالحياء المعقول من جهة، بحيث لا ينشأ مستهتراً وعابثاً وعليهما من جهة اخرى أن يراقبا عدم إصابته بضعف الشخصية والحياء غير المعقول لأن ذلك يبعث فيه الشعور بالخجل المفرط لأبسط حادثة.

ولكي يهتم القراء الكرام في أسلوب تربية أطفالهم بهذا الواجب الخطير، فينشؤوا أولادهم على الحياء ومراعاة القيم الاجتماعية، بجانب حفظهم من الإصابة بالخجل المفرط وضعف الشخصية، أرى من اللازم التطرق الى مسألة الحياء، وفوائده الإجتماعية، ثم التوصل الى الحياء المحبذ والحياء غير المحبذ.

هناك صفات نفسانية مشتركة بين الإنسان وسائر الحيوانات، كحب الولد وما شاكل ذلك. أما الحياء فإنه من الحالات النفسية التي تختص بالإنسان فقط، ولا يتمتع بها شيء من الحيوانات مطلقاً. لقد ذكر الإمام الصادق عليه السلام ذلك لتلميذه المفضل الجعفي في الحديث القيم الذي أملاه عليه حول التوحيد، فقال:"أنظر الآن يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره، العظيم غناؤه، أعني الحياء"4.

لقد صرح الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث بأن الحياء إنما يختص بالإنسان وهو مفقود في الحيوانات. وكذلك العلماء المعاصرون فإنهم يعتبرون الحياء من الصفات الخاصة بالإنسان:

"يعتقد مارك توين أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستحي أو يشعر بأنه في حاجة الى الحياء. يقول الدكتور فلاسن أستاذ جامعة روجستر في تأييد هذه النظرية: إن الحياء علامة السلامة، وهو متداول ومألوف عند جميع أفراد البشر حتى أولئك الحفاة العراة. ولذلك فإنه يعتقد بأن ما يبعث على تصاعد الدم في وجه الإنسان هو الشعور الناشيء من إخفاء حقيقة ما"5.

الأثر الاجتماعي للحياء

إن الفائدة الإجتماعية لخصلة الحياء عبارة عن منع الإنسان عن إرتكاب الجرائم، وحفظه من التلوث بالذنوب والاعمال المنافية للآداب. إن كل فرد يرغب في أن يكون حراً في إشباع ميوله وأهوائه، حتى يستطيع ممارستها مطلقاً من كل قيد أو شرط... لكن هذه الحرية المطلقة لا تتلاءم مع مصلحته وسعادته. ولهذا فإن الأمور المضرة بالمصالح الفردية والاجتماعية ممنوعة على الفرد في التعاليم السماوية، والقوانين الوضعية في العالم أيضاً... وعلى الجميع أن يتجنبوها، ويمتنعوا عن ممارستها.

لا بد من وجود قوة تحمي القانون حتى يستطيع من فرض إرادته على الأفراد فيضبطوا ميولهم غير المشروعة، وتنفّذ الأساليب المحققة للمصالح المادية والمعنوية... ولا بد من وجود سلطة تضمن إتباع الأفراد وانصياعهم لنصوص القانون وإن كانت مخالفة لمشتهيات أنفسهم، فإن القانون يحتاج الى من يتعهد بتطبيقه وتنفيذه، ولا يكفي تشريعه لإصلاحه المجتمع... إذ ما لم توجد الضمانات التنفيذية له فلا سبيل الى التغلب على ميول الأفراد ورغباتهم ومنعهم من متابعة شهواتهم اللامشروعة.

يختلف الضمان التنفيذي للقانون باختلاف المستوى العلمي والتربوي لشعوب العالم، لأنهم متفاوتون في درجة تكاملهم المعنوي ورشدهم الروحي بالنسبة الى بعضهم البعض.

إن أفضل الوسائل التنفيذية للأمم الوحشية أو شبه الوحشية، التي لم تحصل على المقدار الكافي من التكامل الروحي والتعالي النفسي، والتي لم تتلقّ تربية صحيحة، هو السجن، والجلد، والاعدام،وسائر الوسائل الجزائية المشددة. في مثل هذه المجتمعات تستند الحكومة الى العنف والقسوة، وتحمل الناس على اطاعة القوانين الموضوعة من قبلها بالتعذيب والضغط والتهديد، الحديد والنار.

أما في الأمم المتمدنة والراقية.. في المجتمع الذي يكون الأفراد قد نالوا قليلاً أو كثيراً بعض الكمالات الروحية، فإن التضامن لتنفيذ القوانين وحسن تطبيقها ليس المواد الجزائية والتعذيب فقط، بل ان العوامل التربوية والذخائر الروحية للأفراد تساعد كثيراً على رعاية القوانين وتطبيقها وان لمعنويات الأفراد أثراً كبيراً في استيلاء النظام وسيادة القانون على ذلك المجتمع.

إن التربية الصحيحة منذ الطفولة، وارتفاع مستوى العلم والمعرفة، والاستفادة من قوة العقل والتفكير، وإحياء الوجدان الأخلاقي، واستخدام ذلك... عوامل مساعدة في تطبيق القوانين، ويلعب كل منها دوراً مستقلاً في حسن رعايتها.

القيام بالواجب

إن الأفراد الذين تلقوا تربية صالحة منذ الصغر، ونشأوا على الشعور بالمسؤولية ومعرفة الواجب الملقى على عاتق كل منهم، يسلكون في الحياة باستقامة من دون تكلف، ويلزمون رعاية الحق والعدل دائماً... إنهم لا يحومون حول الذنب أصلاً، ولا يفكرون في الخروج على القانون والاعتداء على حقوق الآخرين أبداً. من هنا نستنتج أن التربية الصالحة المتبعة في دور الطفولة من أهم العوامل المساعدة لتنفيذ القوانين وحسن رعايتها.

كذلك الأشخاص الذين حصلوا على ثقافة علمية، ونالوا بعض مدارج الكمال فإنهم يدركون الخير والشر أفضل من غيرهم، ويعرفون الأضرار الفردية والإجتماعية للاجرام قبل الآخرين هناك بعض الانحرافات والجرائم التي يرتكبها الأفراد المحرومون من العلم والثقافة ولا يحوم حولها الأفراد المثقفون والواعون. إن العلم والثقافة يمكن أن يمنع من الخروج على القانون بدوره، ويكون أداة لحسن تطبيق الأنظمة والقوانين.

بالرغم من ان جميع الدول الحية والمتقدمة في العالم تملك أنظمة جزائية لمعاقبة الأفراد الخارجين على القانون، فإن الملجأ الأول لرعاية تطبيق القوانين في تلك الدول هو القوى الثقافية والخلقية والتربوية للأفراد وبعبارة أخرى فإن تأثير الشعور بالمسؤولية، والمستوى التربوي في حسن تطبيق القوانين من قبل أفراد الشعب المتقدم والمثقف، أقوى من تأثير الجزاءات المادية المفروضة في نصوص القانون.

الجزاء

توجد في الشريعة الإسلامية المقدسة سلسلة من القوانين الجزائية لغرض المحافظة على أرواح الأفراد وأموالهم وأعراضهم، وعلى المحاكم والقضاة التصدي للجرائم والمخالفات ضمن الحدود المقررة، ومعاقبة كل مجرم بحسب ما ارتكبه.

لا شك في أن النظام الجزائي في الإسلام عامل فعال في حسن تطبيق القوانين، وحاجز دون انتهاك الأفراد لحرمتها والخروج عليها. ولكن الضمان التنفيذي للقوانين في الإسلام لا يتمثل في النظام الجزائي فقط. لقد استخدم المشرع الإسلامي قبل أربعة عشر قرناً جميع ما يستفاد منه في تطبيق القوانين في الدول المتمدنة اليوم.

يرى العلماء المعاصرون أن التربية الصحيحة للطفل، وتنمية الشعور بالمسؤولية فيه، وإحياء وجدانه الخلقي، واستغلال الطاقات العلمية والعقلية المودعة عنده... عوامل مساعدة لتطبيق القوانين وإحقاق الحق.

لقد أولى قائد الإسلام العظيم كل هذه الوسائل المعنوية عناية كاملة. إن قتل النفس البريئة جرم عظيم وعمل غير قانوني، وجزاءه إعدام القاتل. هذا الجزاء هو الذي يضمن عدم انتشار حوادث القتل... في حين أن الشخص الذي تربى على الفضيلة والطهارة منذ البداية ونشأ على الاستقامة والتزام المثل العليا، لا يفكر في الاجرام أبداً، ولا يحدث نفسه بالتجاوز على حياة الآخرين. إن شخصاً كهذا يحترم حق الآخرين في الحياة قبل أن يخاف الجزاء، ولذلك فلا يقدم على قتل النفس المحرمة. وهكذا تجري اطاعة القانون والحذر من الاجرام على هذا المنوال. فالخوف من الجزاء يمنع الفرد من الاعتداء على حقوق الآخرين حيناً، والشعور بالمسؤولية والرغبة في التكامل الروحي هو الدافع لاحترام الفرد حقوق غيره حيناً آخر.

لا فخر للإنسان إن كان الدافع إلى إنقياده للقوانين العادلة واحترامه حقوق الآخرين هو الخوف من العقوبة، لأن كثيراً من الحيوانات تنقاد لأصحابها خوفاً من حدة السوط. إن الانقياد المنبعث من أعماق وجود الإنسان الناشيء من حب الكمال، هو الذي يعتبر محبذاً وقابلاً للتقدير والاستحسان وهو أمارة الإنسانية. والهدف من التعاليم الإسلامية القيمة هو تربية هؤلاء الأفراد.

الإيمان والإنقياد للقانون

بالرغم من أن هناك عقوبات وقرارات جزائية في الإسلام بشأن رعاية تطبيق القوانين، لكن الاساس الذي استند إليه مشروع الإسلام العظيم في تطبيق القوانين هو المبادىء المعنوية والتعاليم الروحية التي لقنها لأصحابه. وبعبارة أخرى فإن دور العقوبات في الإسلام بالنسبة الى تنفيذ القرارات العامة ضئيل جداً... على العكس من الطاقات الإيمانية العظيمة المستقرة في باطن الرجال المؤمنين فإنها العامل الفعال في تنفيذ القوانين وحسن رعايتها.

إن جميع النصوص والأسس الإسلامية الواصلة إلينا حول التنظيم الجزائي لا تتجاوز البضع ماءة آية وحديث... في حين أن هناك ألوف الآيات والأحاديث في الإيمان بالله واليوم الآخر، وفي بيان الفضائل والرذائل وحول الشعور بالمسؤولية والقيام بالواجب، والحث على التقوى والتكامل الروحي... وغير ذلك من المعنويات والقيم والمثل. وهذا يدلنا على أن أساس اهتمام قائد الإسلام العظيم في تنفيذ القوانين كان منصبا على استغلال القوى المعنوية والإيمانية. إن العقوبات انما هي لغرض تأديب أفراد معدودين لم يستفيدوا شيئاً من ثروة الإيمان والفضائل.

وهذه سمة فريدة يمتاز بها النظام التربوي في الإسلام على سائر النظم التربوية والنفسية في العالم المتحضر.. وهي عبارة عن أن الإسلام يرسي قواعده على الايمان بالله، أما النظم الأخرى فإنها فاقدة لهذا الأثر الكبير. يستفيد العلماء المعاصرون في مناهجهم العلمية من قوة التربية والاخلاق، ومستوى الثقافة والوجدان ونحو ذلك، فينشئون الأفراد على الشعور بالواجب والإسلام يستفيد من هذه الأسس أيضاً في أساليبه التربوية، إلا أنه يتضمن منهجاً فريداً من نوعه في ضمان سعادة الإنسان وإحياء الشعور بالواجب في نفسه وهو الإيمان بالله.

إن تأثير الإيمان في ضمان تنفيذ القوانين واداء الواجبات يفوق تأثير أي قدرة أخرى ولهو أنشط من أي عامل آخر. ذلك أن جميع الوسائل التي تضمن تطبيق القوانين يقل تأثيرها أو ينعدم في الظروف الصعبة وعند مواجهة العقبات... أما القدرة التي تستطيع أن تقف حاجزاً أمام انحراف الأفراد في مختلف الظروف وشتى المواقع فهي الإيمان بالله. إن المؤمنين الواقعيين مستقيمون في سلوكهم دائماً ويقومون بواجباتهم خير قيام... إنهم يسيرون في الصراط القويم في الفقر والغنى، والصحة والمرض، والأمن والفوضى، والسلم والحرب، وفي كل الحالات، لا ينحرفون عنه قيد شعرة.

يعترف علماء النفس في كتبهم العلمية بقيمة الإيمان وتأثيره العميق في المناهج التربوية. ان الطفل الذي تربى في حجر الوالدين المؤمنين، وتلقى درس الإيمان بالله منذ الطفولة يمتاز على الطفل الفاقد للإيمان بميزات كثيرة. إنه يملك طيلة أيام الحياة روحاً أقوى، واستقامة اكثر، وأملاً أوطد... فهو يرى الله في جميع حالاته مشرفاً عليه، ولذلك فإنه لا يتخلى عن واجباته ولا يفر من مسؤولياته ولا يقدم على الاجرام والاعتداء.

الخوف من اللوم
بعد هذه المقدمة الوافية عن الحياء وأثره الإجتماعي ننتقل الى صلب البحث فنقول:

إن الحياء من العوامل النفسية المهمة التي تستطيع ضمان تنفيذ القوانين ومنع الناس من الإقدام على الإجرام والتجاوز. هناك أفراد مستهترون ومتسيبون في كل مجتمع، مأسورون لأهوائهم وشهواتهم ولا يفهمون معنى للشعور بالمسؤولية واحترام القانون ورعاية الآداب، ولذلك لا يتورعون عن ارتكاب مختلف الذنوب والجرائم، لكن الحاجز الوحيد الذي يقف امام تنفيذ رغباتهم هو الحياء من الناس، ويخافون استياء الرأي العام واستنكاره فيمتنعون عن القيام بذلك. لأنهم يعلمون أنه اإذا أقدموا على تلك الجرائم تعرضوا لسخط الجميع واستنكارهم، وعند ذاك تكون الحياة بالنسبة لهم جحيماً لا يطاق.

يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديثه للمفضل الجعفي، حول الحياء واثره النفسي: "فلولاه لم يُقر ضيف، ولم يوفَ بالعداة، ولم تُقض الحوائج، ولم يتحر الجميل، ولم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء. حتى أن كثيراً من الأمور المفترضة أيضاً إنما يفعل للحياء. فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه، ولم يصل ذا رحم، ولم يؤد امانة، ولم يعفّ عن فاحشة"6.

إن خشية استنكار الرأي العام، وخوف اللوم من الناس من أعظم العوامل الباعثة على رعاية القوانين للعالم المتحضر. ما أكثر القادة المتنفذين والأثرياء الماديين، والشبان والفتيات المستهترين، الذين يرغبون في تنفيذ رغباتهم وأهوائهم اللامشروعة، ولكنهم يخافون اعتراض الناس، ويخشون استنكار الرأي العام يضطرون للتراجع عن تحقيق ميولهم، وكبح أهوائهم والإنقياد ليكونوا بمنجى عن اللوم والتفريع.

وقع الاستنكار

لا شك في أن وقع استنكار الرأي العام في بعض الأحيان يكون أشد من عقوبة السجن والسوط بكثير. ومن البديهي أنه عندئذ يكون تأثير الحياء في ضمان تطبيق القوانين أقوى من تأثير القرارات الجزائية.

إن الرجل الذي سجن بسبب ارتكابه جريمة السرقة يتألم من محاكمته ولكن إذا افتضح أمره وعرف في المجتمع بالخيانة والسرقة فإن تألمه يكون اكثر. والمرأة التي ترتكب عملاً منافياً للعفة والشرف تتوطن لأن تسجن لمدة ستة أشهر، ولا ترضى بأن تعرف بين الناس بالاستهتار والزنا ستة أيام. وطبيعي أنه كلما كان المستوى التربوي والثقافي للأمة عالياً كان نفورها واستياؤها من الأعمال المنكرة أشد.

هذا النوع من الحياء الذي يضمن تطبيق القوانين، ويمنع الأفراد من الانحراف والاعتداء، من الصفات المحبذة والفاضلة بلا شك. وهو ممدوح في الإسلام وقد ورت أحاديث كثيرة تؤكد عليه.

واليكم نموذجاً منها:

1-
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إذا لم تستح فافعل ما شئت"7 أي أن الأفراد الفاقدين للحياء لا يتورعون عن الاجرام والاعتداء على حقوق الآخرين.

2-
عن علي عليه السلام: "من قلّ حياؤه قلّ ورعه"8.

3-
وعنه عليه السلام: الحياء يصد عن فعل القبيح"9.

4-
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"10.

5- قال أبو محمد العسكري عليه السلام: "من لم يتق وجوه الناس لم يتق الله"11.

6-
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه"12.

هذه النصوص تهدف الى بيان أهمية الحياء من الناس في تطبيق القوانين والوقاية من الجرائم. ولكن يوجد في زوايا المجتمع أفراد لا يخافون من استنكار الرأي العام ومع ذلك لا يحومون حول الذنب...

بل إنهم لا يقدمون على المخالفة حتى في الخلوة، لأنهم أفراد شرفاء يستحون من أنفسهم، ويراعون شرف طباعهم وفضائلهم التي يمتازون بها... هؤلاء هم أفضل طبقات المجتمع.

قال علي عليه السلام: "أحسن الحياء استحياؤك من نفسك"13.

التظاهر بالذنب

من العوامل التي تؤدي الى الخروج على القيم الإجتماعية، وتبعث الجرأة والجسارة في نفوس الأفراد على الاجرام، تظاهر المجرمين بخروجهم على القانون. ولهذا السبب فإن الإسلام يمنع من ارتكاب الذنوب والجرائم من جهة، ويحذر الناس من التظاهر بالذنوب المؤدي الى فقدان الحياء من جهة اخرى.

"عن الصادق عليه السلام عن أبيه: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم تضرّ إلا عاملها، وإذا عمل بها علانية ولم يعيّر عليه أضرّت بالعامة"14.

انحراف المجتمع

لايخفى أن الحياء من الناس والخوف من استنكار الرأي العام بالنسبة للجرائم، يكون عندما يعتبر المجتمع تلك الأعمال مذمومة ومستهجنة. أما المجتمع المصاب بالإنحراف والضلال، الذي تفقد فيه عض الجرائم والمعاصي قبحها، ويعتبرها الجميع أموراً اعتيادية، فإنه لا يقف الإنحراف في ذلك المجتمع عند فقدان الحياء من قبل المجرمين، بل قد يتفاخرون باعمالهم الهدامة وجرائمهم الشنيعة.

المجتمع الذي يرى في العفة والإمتناع عن العلاقات الجنسيه غير المشروعة خرافة وجموداً، ويعتبر الحرية في العلاقات غير المشروعة مثالاً للتقدم والوعي !!!

المجتمع الذي يعتبر الأمانة والصدق علامة البلادة والحماقة، ويرى في الإرتشاء والكذب والتزوير سنداً للكفاءة والنجاح !!!

المجتمع الذي لا يرى قبحاً في شرب الخمر والقمار !!!

في هذا المجتمع لا يوجد معنى للحياء ومراقبة الأفكار العامة، ولا يجد المجرم في نفسه خوفاً من اللوم والتقريع ولا خشية من الاستنكار والإستهجان.

إن كل ذنب في المجتمع، يشبه داء خطيراً يتضمن بين طياته مشاكل كبيرة لأفراده. ولكن المصيبة العظمى تتمثل في عدم اعتبار المجتمع ذلك العمل قبيحاً، وعدم اعتبار المرتكب له مستحقاً للعقوبة واللوم. فمن البديهي أنه في هذه الحالة يسير المجتمع نحو الهاوية، ولا يمر زمن طويل حتى تظهر الآثار الوخيمة لتلك النظرة الخاطئة.

لقد اعتبر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله هذه الظاهرة من أخطر المشاكل الإجتماعية حيث قال:

"كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر" ؟ !

فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟ !

قال: نعم، وشر من ذلك. كيف بكم اذا أمرتم بالمنكر،ونهيتم عن المعروف؟!فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟ !قال: نعم كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؟ !"15.

لقد شرح الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله مظاهر الإنحراف الإجتماعي في ثلاث مراحل: الأولى إرتكاب الأفراد للذنوب والجرائم. والثانية دعوة بعضهم البعض إلى الفساد والإجرام والتناهي فيما بينهم عن عمل الخير والصلاح. والمرحلة الثالثة وهي أخطر المراحل أن يحصل تغيير أساسي في أفكار الناس فيروا الفساد والإنحراف خيراً، وينظروا الى الصلاح والخير شراً.

إن مما يؤسف له أن كثيراً من البلاد الإسلامية مصابة بهذه البلية العظمى، فقد فقدت غالبية الذنوب والجرائم قبحها في أنظار المسلمين وتعتبر أفعالاً اعتيادية ومالوفة. هذه الصفة الذميمة مزقت حجب الحياء الإسلامي، والخوف من استنكار الناس، في أنظار المجرمين فيقدمون على الجرائم من دون خوف أو رادع ويصابون بالمآسي والمشاكل من جراء ذلك.

وفي الغرب فقدت بعض المسائل وخصوصاً الأمور المرتبطة بالمسائل الجنسية القبح الذي كان في أنظار الناس تجاهها.. وعلى أثر ذلك نجد الشباب والفتيات يقدمون على أعمال فاسدة دون أي شعور بالخوف أو الإستنكار، وتكون النتيجة أن يتزلزل أساس طهارة النسل، والعفة الخلقية في تلك البلدان... وهذا ما تدل عليه الإحصاءات الجنائية في تلك الدول وبعض الإحصاءات الإجتماعية الأخرى.

وعلى سبيل الشاهد نكتفي بمنوذج بسيط من ذلك:

"يونايتد برس لقد أعلن (الدكتور رونالد جبسون) قبل أيام في مؤتمر جمعية الأطباء البريطانية، عند قراءة تقرير يتعلق بالقضايا الجنسية، بأنه في أحدى المدارس الإنكليزية للبنات كانت الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين ال 14 وال 15 سنة يضعن شارات خاصة على صدورهن، تشير الى أنهن قد فقدن بكارتهن ! لقد أدى هذا التقرير إلى إضطراب شديد في الأوساط الدينية ومن قبل أولياء أمور الفتيات".

"لقد صرح الدكتور جٍبسون في مؤتمر كانتربوري أن البرامج التلفزيونية تقتل الذوق السليم عند الشباب، وتؤدي إلى إثارات فاسدة فيهم... ولقد أدت التعاليم الجنسية التي لا يقصد منها غير معرفة شؤون الحياة الى نتائج مؤلمة جداً".

 "أكد الدكتور جبسون في مؤتمر جمعية الأطباء البريطانية أن إنعدام الضبط الخلقي يسيطر على جميع نقاط البلاد، واعتبر الطب الروحي الجديد مقصراً كل التقصير".

"لقد أعلن (الدكتور امبروس لينك) وهو من المعنيين الإختصاصيين في الأمراض الجنسية بعد أيام من ذلك بأنه منذ عام 1957 وحتى الآن فقد ظهر مرض جنسي جديد بين الشبان الأحداث. وقد شاع بين الفتيان الذي تتراوح أعمارهم بين ال 15 وال 19 عاماً بنسبة 3، 67%، أما بين الفتيات اللاتي في نفس السن فقد ازداد المرض بنسبة 4، 65%"16.

والخلاصة أن الحياء الذي يمنع الفرد من ارتكاب الذنوب، ويلعب دوراً مهماً في ضمان رعاية القوانين وتطبيقها من الصفات الفاضلة عند الإنسان. وكما ذكر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله فإن هذا النوع من الحياء يدل على قوة العقل ومتانة الشخصية، وهو رمز الضمير الحر والإرادة الرصينة.

تنمية الحياء عند الطفل

على الوالدين أن يعوّدا طفلهما على الحياء منذ الصغر، وأن يفهماه قبح الذنب واستياء الناس من المذنب، وبهذا يستطيعان أن يقفا أمام انحرافه وخروجه على القانون.

إن الحياء المذموم أي الخجل المفرط من الصفات الذميمة. وأساس هذا النوع من الحياء هو ضعف الشخصية وعقدة الحقارة. وقد عبر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله عن ذلك بحياء الحمق والجهل.

إن عقدة الحقارة قد تنشأ من سوء التربية، وقد تستند الى العيوب الطبيعية أو النقائص الإجتماعية. والخلاصة ان هناك عوامل وعللا كثيرة يمكن أن تؤدي الى نشوء عقدة الحقارة، فتبعث الإنسان على الخجل المفرط والحياء التافه.

"إن جميع المظاهر الحقيقية أو المجازية للتحقير الذي يحسّ به الطفل في اتصاله بالبيئة التي يعيش فيها يمكن أن تؤدي إلى نشوء هذه العقدة النفسية. يقول الدكتور آلاندي في كتابه (الطفل المجهول):

إن قلة ذات اليد واشتمال الملابس الرثة، ووجود العاهات العضوية، والمرض، أو الشعور بالنقص في الأسرة... كل ذلك من الأمور التي تلعب دوراً كبيراً في نشوء هذه العقدة وعلى هذا فمن الضروري أن تعار أهمية بالغة الى جميع هذه العوامل حتى لا تنشأ الشخصية المنحرفة عند الأطفال، لأن تغيير هذا الوضع الروحي في الفترات التالية يفتقر الى كفاح عنيف، وجهد متواصل"17.

إن الجانب الكبير من الأمراض النفسية والشعور بالحقارة ناشىء من سوء التربية في دور الطفولة، فقد يترك السلوك الأهوج للوالدين في نفوس الأطفال أثراً سيئاً الى درجة أنه يصيبهم بالضعة والدونية، ويظلون يتجرعون النتائج الوخيمة لذلك مدى العمر !

إن أفضل الأساليب المقترحة لوقاية نشوء هذا المرض هو التربية الصحيحة. على الوالدين أن يعدّا الأطفال منذ الأشهر الأولى لتربية سليمة ورعاية دقيقة حتى لا يصابوا بعقدة الحقارة أصلاً.

"بالرغم من أن جميع حركات الطفل إنعكاسية في بداية الأمر... (الضحك، البكاء، الأكل، المشي، التكلم) فإنه يجب تنظيم هذه الإنعكاسات. إن كيفية رعاية الوالدين وتغذيتهما لأطفالهما توضح لنا هل أنهما مربيان أم لا. أما أنه هل يجب تطوير الحركات الإنعكاسية واخضاعهاٌ نعم، ومنذ الأيام الأولى يجب أن تبدأ هذه التربية. ان البكاء والعويل والتزمت كل ذلك يتصل اتصالاً وثيقاً بالرقابات الأولية، فإن كانت منحرفة أدت الى نشوء الطفل على الأخلاق الذميمة والصفات الشريرة"18.

المدح والثناء

من الميول الفطرية عند الإنسان، والتي تظهر منذ أولى أدوار الطفولة وتظل تلازمه مدى العمر، الرغبة في المدح والثناء من قبل الآخرين. إن كل صغير وكبير يتوقع أن يلاقي استحساناً ومديحاً من قبل الأصدقاء والزملاء في الانتصارات التي احرزها في الحياة، والتقدم الذي يناله في كل مرحلة.

إن الإستعدادت الباطنية للأفراد تصل إلى مرحلة الفعلية، وتخرج إلى حيز الوجود في ظل التشجيع والإستحسان. وكأن الإستحسان والثناء يمنحان الأفراد طاقة جديدة، ويفتحان لهم طريق التعالي والتكامل.

"يقول أحد علماء النفس العظماء المعاصرين، وهو (ماكدوكل): ان جميع الأطفال دون استنثاء في حاجة الى التشجيع وتحفيز الشعور بالاعتماد على النفس اكثر من حاجتهم الى الخشونة والعقوبة. ما أكثر الأطفال الذين ظلوا جاهلين بالطاقات والمواهب المودعة فيهم على اثر فقدان المحفزات والمشجعات لهم، في حين أن تذكيراً بسيطاً أصبح قادراً على إظهارها. إن الجانب الأعظم من الإضطرابات الفكرية والعصبية للأطفال ناشيء من السلوك المصحوب بالشدة والغلظة تجاههم، هذه الأمراض العصبية تظل ملازمة للإنسان مدى العمر"19.

"إن الحاجة لاسترضاء خاطر الآخرين من ضرورات الحياة الإجتماعية. تذكروا اللذة التي حصلتم عليها عندما احرزتم نجاحاً لأول مرة ولا قيتم تشجيعاً وإستحساناً من والديكم، أو عندما سمعتم مديحاً من المعلمين في المدرسة".

"إن إستحسان الآخرين ومديحهم هو الأجر الذي يهوّن الصعوبات وينسي المتاعب. إننا صغاراً وكباراً، وفي أي سن ومقام كنا إذا كان ما فعلناه قد قوبل بالإستحسان فقد توصلنا إلى الأجر الذي نستحقه، ولا ريب في أن ذلك يبعث على اللذة والسرور، ويحثنا على الاستمرار حتى نهاية الطريق. إن الترغيب والتشجيع ضروريان من أي شخص كانا، وأينما حصلا.. خصوصاً إذا كانا صادرين من الاصدقاء والزملاء والأقارب. وطبيعي أن يكون اهتمام البعض بالتشجيع أكثر من الآخرين، لكن من المستحيل أن يستغني¨ أحد من تشجيع الآخرين تماماً"20.

سلوك النبي صلّى الله عليه وآله في الثناء
لقد كان قادة الإسلام وأئمته يهتمون بالأفعال الصالحة التي تصدر من الناس في أمورهم الدينية والدنيوية، وكانوا يشجعونهم على المزيد منها وعلى سبيل المثال أذكر لكم نموذجين بهذا الصدد:

1-
لقد رأى النبي صلّى الله عليه وآله أعرابياً يدعو في صلاته، ويتزلف الى الله تعالى بعبارات عميقة ومضامين عالية. لقد أثرت كلماته المتينة وعباراته المشيرة الى وعي صاحبها والكاشفة عن درجة الإيمان والكمال التي هو عليها في النبي صلّى الله عليه وآله. فعين شخصاً لإنتظار الإعرابي حتى يفرغ من صلاته. فيأتي به إليه. وما إن فرغ الإعرابي حتى مثل بين يديه فأهداه النبي صلّى الله عليه وآله قطعة من الذهب. ثم سأله: من أين أنت ؟

قال: من بني عامر بن صعصعة.

قال له النبي: هل عرفت لماذا أعطيتك الذهب؟!

قال: لما بيننا من القرابة والرحم.

فقال له النبي: "إن للرحم حقا، ولكن وهبته لك لحسن ثنائك على الله عز وجل"21.

لقد بعث استحسان النبي وتشجيعه الرغبة في عمل الخير في نفس الأعرابي اكثر من السابق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد أدى الى أن يقتدي الآخرون به.

2-
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في العهد الذي بعثه إلى مالك الأشتر، حول سلوكه تجاه ولاته:

"وأوصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلي ذوو البلاء منهم فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهزّ الشجاع، وتحرّض الناكل إن شاء الله تعالى"22.

وكما أن التملق والمدح الذي في غير محله أمر مذموم من الناحية الخلقية وقد يتضمن مفاسد كثيرة... كذلك الإمتناع عن التشجيع والإستحسان فإنه من الصفات الذميمة، ويتضمن نتائج سيئة.

وفي هذا المعنى يقول أمير المومنين عليه السلام: "الثناءُ بأكثر من الإستحقاق ملق والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد"23.

المديح بالإستحقاق

قد يؤدي المديح الناشيء عن استحقاق، إلى تغيير حياة إنسان تغييراً تاماً، فيقوده نحو طريق السعادة والفلاح، ويحيي شخصيته، ويبعث نور الأمل في أعماق روحه، ويمنحه الطمأنينة والهدوء... فيسلك طريق التكامل من دون تردد أو حيرة ويحصل على نجاح باهر في النهاية.

على العكس فقد يؤدي الامتناع عن مدح شخص يستحق الثناء والتقدير الى قتل شخصيته وإصابته بالحقارة والدونية فيفقد الإعتماد على النفس، ويستولي عليه اليأس والقنوط، ويقول في نفسه: إنني غير جدير بأي تقدير او شكر، حتى أن أصدقائي لا يهتمون بشأني عندما أقوم بعمل كبير يسترعي الإنتباه، عند ذاك تبدأ تعاسته، ويدبّ اليأس إلى روحه، ويستأصل داء الحقارة في نفسه ويصاب بالعوارض الوخيمة.

ومن عوارض هذا الإنهيار الروحي، الخجل المفرط والحياء الشديد فقد يصاب الإنسان بالحقارة الى درجة أنه لا يجرأ على الإحتكاك بالناس ومعاشرتهم... وكأنه يرى نفسه أقل من أن يتكلم معه الآخرون ويعتبروه إنساناً واقعياً فيحترموا شخصيته.

"عندما يجد الفرد أنه لم يسترع انتباه الآخرين كما يتصور فإنه يفر من الناس مرة واحدة، ويفضل الإنزواء على الإتصال بالناس خوفاً من أن يُحتقر من قبلهم، أو يختار زاوية من المجلس فيستقر فيها بكل اضطراب وقلق دون أن يتكلم بشيء"24.

إن المديح المناسب المستند الى الإستحقاق والجدارة شرط ضروري لتربية الطفل. ذلك أن من وسائل وقاية ظهور مرض الخجل المفرط وشدة الحياء عند الأطفال، الثناء عليهم وتوجيه الشكر والمديح على أفعالهم الطيبة إن الأطفال الذين نشأوا على يد أبوين شديدين أنانيين لا يحسّون طعم الإستحسان والمدح أبداً، ولذلك فإنهم يملكون أرواحاً محطمة وقلقة، ويعيشون في حقارة مستمرة.

وكما أن الوالدين مدعوّان الى توجيه اللوم لأطفالهما على أفعالهم السيئة وتعويدهم على الإستقامة والأدب عن هذا الطريق، كذلك يجب أن يشجعاهم في الأفعال الصالحة التي يقومون بها كي يستمروا على ذلك، ويعرفوا بأنهم يجب أن يلتزموا السلوك المفضل في حياتهم. ولكن يجب التنبه الى أن التشجيع والتوبيخ دواءان تربويان مؤثران، ومن الضروري الإستفاده منهما في المواقع المناسبة حسب مقدار صحيح. إن التشيجع والتوبيخ التافهين اللذين لا يستندان الى استحقاق، أو الإفراط فيهما قد يكون عديم الفائدة في تربية الطفل، وقد يؤدي الى نتائج وخيمة.

عن علي عليه السلام: "أكبر الحمق: الاغراق في المدح والذم"25.

"يتعلم الطفل في الأشهر الثلاثة الأولى من ولادته كيفية الإبتسام، ويختلف انطباعه تجاه الأشخاص، عن انطباعه تجاه الأشياء. في هذه السن يوجد الإرتباط بين الطفل وأمه، ويستطيع الطفل حينئذ أن يظهر سروره وارتياحه بمشاهدة أمه، وإن الإستجابات التي تصدر منه لا تتصف بالصورة الحيوانية البحتة... بل يؤثر فيه الميل للمدح والتشجيع بسرعة. ومنذ هذه اللحظة يحصل المربي على سلاح جديد هو المدح والذم".

"هذه الأسلحة تملك قدرة فعالة خلال دور الطفولة، ولكن يجب استعمالها بحيطة وحذر شديدين. يجب أن لا يستعمل اللوم والتقريع في العام الأول، وبعد ذلك يجب التريث في استعماله. أما المديح والثناء فإن ضررهما أقل، ولكن يجب أن لا يُصرفا بسهولة كي يفقدا قيمتهما كذلك لا ينبغي اللجوء إليهما في التحفيز الزائد على المعتاد لطاقات الطفل. لا يوجد أب مهمل يرى طفله يمشي أو يتكلم لأول مرة، ويستطيع أن يجري بعض الكلمات على لسانه بصورة صحيحة، ومع ذلك يتمالك على نفسه من التشجيع والإستحسان. وبصورة عامة فإنه عندما يسيطر الطفل على أمر صعب بعد ثبات وجهد شديدين فإن الإستحسان والثناء عليه أحسن مكافأة له. مضافاً إلى أنّ من الأفضل أن نجعل الطفل يشعر بموافقتنا لميله نحو التعلّم واكتشاف المجهولات"26.

طريق التقدم

يبذل الطفل نشاطاً بصورة طبيعية في طريق الوصول إلى الكمال المنشود، يستغل طاقاته الطفولية في هذا السبيل. إن تشجيع الوالدين والأصدقاء يفسح المجال أمامه للتقدم اكثر، ويمد سراج الأمل في نفسه بالوقود بإستمرار... وفي النتيجة تتفتح مواهبه واحدة بعد الأخرى وعلى العكس من ذلك فإن إهمال الوالدين أو تزمتهما يضعف النشاط الفردي عند الطفل ويبعث فيه الفتور والملل في سلوك طريق الجد والعمل. اإن تكرار هذا السلوك المذموم يهدم روح الطفل ويتضمن نتائج وخيمة. ولأجل أن يتضح الأمر بصورة أجلى للقراء الكرام نستشهد بالمثال التالي:

صبي صغير السن لم يمض على دخوله المدرسة أكثر من عدة أشهر وقد تعلم بعض الدروس من كتاب الصف الأول. والآن قد كتب صفحة كاملة لأول مرة، وأظهر نتائج جهوده على صفحة من القرطاس. إن هذه الكتابة تعتبر الإنتصار العلمي العظيم لهذا الصبي... فهي خلاصة الأتعاب التي بذلت معه طيلة عدة أشهر، وهي بعدُ مرآة تعكس شخصيته يثبت عينيه نحو باب الدار ويعدّ الدقيقة بعد الأخرى لقدوم والده وإراءة هذا الأثر اللامع له... إنه يأمل في التشجيع والإستحسان من أبيه، وهذه الساعة هي أسعد ساعات حياته.

يدخل الأب الى البيت، فيركض الصبي لكي يريه ما كتبه ثم يظل ينظر إلى أبيه بعينين نافذتين. إن الأب العاقل والأب الواعي.. يقرأ كتابة الصبي بإمعان، نافذتين، فيبتسم... ثم يحمله بين ذراعيه، ويعامله باللطف والمحبة ويكرر الإستحسان والثناء عليه وبهذا يكافئه بأحسن صورة. إن سلوك الأب يمنح الصبي روحا طرية، فيزداد نشاطه وجدّه، ويستمر في التقدم العلمي بكل شوق ورغبة.

أما الأب الجاهل، الأب المهمل... فإنه يفاجىء الصبي بعكس ما كان يتوقع. لا يقرأ كتابته، وإذا قرأها فلا يستحسن ولا يثني عليه. وأشدّ من ذلك أن بعض الآباء يجبرون الاخفاق والفشل الذي يلاقونه خارج المنزل بالشدة والخشونة مع الزوجة والأطفال فيرزمون بالصبي الذي كله أمل ورجاء، وبهذا يقتلون روح التقدم فيه، ويحطمون شخصيته، ويطفئون سراج أمله واطمئنانه.

يبتعد الطفل عن أبيه بروح منكسرة، وقلب متحطم، وينام ليلته مع خاطرة مرة. قد لا يتنبه الأب الى سلوكه الأهوج أبداً، ولكن الطفل لا ينسى هذا الموقف المؤلم. إن القسم الأكبر من مآسي الأفراد وتعاستهم ينبع من خاطرة مرة، أو نقطة طفيفة... ثم تتسع حتى تعود عليه بالدمار والإنهيار.

إن الأطفال الذين لا يلاقون تشجيعاً واستحساناً على أفعالهم الطيبة التي يقومون بها، بل يقابلون بالتحقير والاهانة من قبل الوالدين، تندحر شخصياتهم ويصابون بعقدة الحقارة، ويقعون في شرك المشاكل والمآسي الكثيرة. ومن هذه العوارض الخجل المفرط في مواجهة الناس.

"إن الأشخاص الذين تلمسون الخجل وسرعة الإنفعال منهم، أو تجدونهم مستهترين ومشاكسين، أو يلاحظ عليهم الخمول والهدوء، أو الثرثرة والفضول، أو البرودة وضعف الإرادة، أو التهور والسطحية... هم رجال لا يملكون اطمئناناً بأنفسهم ويفقدون الإعتماد على النفس أي أنهم يتصورن أن المجتمع لا يعترف بهم كما ينبغي ولا يحلّهم المحل الذي يستحقونه"27.

إذن يجب على الوالدين، ضمن القيام بواجباتهما التربوية، الإنتباه إلى هذه النقطة المهمة، فيستحسنا الأفعال الصالحة التي تصدر من أطفالهما ويفرّحاهم بالمدح والثناء... وهذا هو أحسن الوسائل للوقاية من نشوء الخجل المفرط وضعف النفس فيهم.

لقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه قال: "إذا نظر الوالد الى ولده فسرّه، كان للوالد عتق نسمة"28.

ومن البديهي أن المدح والثناء عن استحقاق أفضل الوسائل لبعث السرور في نفس الطفل، وهذا يشتمل على أجر أخروي ومكافأة إلهية في نظر الإسلام، بغض النظر عن فوائده التربوية. لقد اهتم الأئمة عليهم السلام بهذا الموضوع كثيراً، وطبقوه في أسلوبهم التربوي الأمثل بالنسبة الى أطفالهم... إذ كانا يشجعونهم على الأفعال المفيدة التي تصدر منهم ويرغبونهم في الإستزادة منها.

والقصة التالية نموذج طريف لما تقدم.

نموذج عن الإستحسان

كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام جالساً يوماً في بيته، وقد جلس على جانبيه طفلاه الصغيران: العباس، وزينب.

"قال علي عليه السلام للعباس: قل: واحد.

فقال: واحد.

فقال: قل: اثنان.

قال: استحي أن أقول باللسان الذي قلت، واحد: اثنان !

فقبّل علي عليه السلام عينيه... ثم التفت الى زينب وكانت على يساره فقالت: يا أبتا، أتحبّنا ؟

قال: نعم يا بنيتي، أولادنا أكبادنا !

فقالت: يا أبتاه، حبّان لا يجتمعان في قلب المؤمن، حبّ الله، وحب الأولاد. وإن كان لا بدّ فالشفقة لنا والحب لله خالصاً.

فإزداد علي عليه السلام بهما حباً"29.

إن تقبيل الإمام عليه السلام عيني طفله الصغير على صراحته واستقامته وإزدياد حبه له ولأخته الصغيرة مكافأة جميلة لهما على ما صدر منهما. وفي الواقع فإن بيت علي عليه السلام كان طافحاً بالتوحيد والإيمان، مليئاً بالحب الإلهي والفناء في ذاته... ولذلك فإن الأطفال قد تلقوا تربية سليمة وطفحت قلوبهم كأبيهم بحب الله وتوحيده.

عاملان لسرعة الإنفعال

ليس منشأ الخجل المفرط سوء التربية فحسب. بل هناك طائفة من النقائص العضوية والعوامل الإجتماعية التي تؤدي الى ظهور هذا المرض. لقد استخدم الإسلام جميع الوسائل والطرق لمعالجة هذه الحالة النفسية وأوصى المسلمين بالتعليمات اللازمة.

وفي ختام بحثنا هذا نشير الى عاملين فقط لذلك: أحدهما الفقر، والآخر الإنحطاط العائلي.

يعتبر الفقر من أعظم المصائب في حياة البشر. فالشخص الفقير مصاب بالحرمان من جانب، ومعرّض لتحقير الناس والسخرية منهم من جانب آخر.

"قال علي عليه السلام لإبنه محمد ابن الحنفية: يا بني إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت"30.

وقال لقمان لابنه: "اعلم أي بنيّ، إني قد ذقت الصبر وأنواع المر، فلم أر أمر من الفقر. فإن افتقرت يوماً فاجعل فقرك بينك وبين الله، ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم"31.

فالفقراء إذن، يشعرون بالحقارة والضعف في انفسهم بسب الفقر والحاجة، ولذلك فهم شديدو الخجل في علاقتهم مع الناس32.

حماية الفقراء

لقد شرع الإسلام قوانين خاصة لحماية الفقراء الذين يستحقون المساعدة حقيقة، ولغرض مكافحة المرض النفسي الذي هم في أسره. وهكذا نجد أن الدولة الإسلامية تتكفل بضمان الحد الأدنى لحاجاتهم من الموارد العامة لبيت المال، بحيث تسمح لهم بأن يعيشوا أعزاء... ومن جهة أخرى نجد أنه يحترم شخصيتهم في مناهجه القانونية والخلقية، ويراعي عواطفهم تماماً.

لا يحرم الفقير بسبب قلة ذات اليد من العزة الإجتماعية والإحترام القانوني. إذ لا يحق لمسلم أن ينظر إليه بعين التحقير والاهانة. إن الفقر الإيماني والخلقي هو منشأ الحقارة والتعاسة للإنسان في نظر المؤمنين الواقعيين وإنهم يرون في الثروات المعنوية والروحية سبباً لرفعة الشأن وسمو المنزلة، لا الثرورة المادية.

إن المؤمنين الواقعيين قد يواجهون حرماناً من بعض الأشياء بسبب فقرهم، ولكنهم لا يشعرون بالحقارة والضعة في انفسهم. اإن الإيمان بالله يمنحهم قوة وشخصية روحية متينة بحيث لا يستطيع الفقر أن يسيطر عليهم... هؤلاء الأفراد كانوا موجودين في العصور الماضية، ولا يزالون موجودين في عصرنا الحاضر.

التوصيات الخلقية

لقد أكد الإسلام في تعاليمه القانونية والخلقية على أهمية رعاية عواطف أطفال الفقراء حتى لا يصابوا بعقدة الحقارة، ولا يتجرعوا عوارضه الوخيمة فبغض النظر عن المساعدات المالية التي أوجبها القانون لصالحهم، فضمن بذلك حياتهم ومعيشتهم، أكد الإسلام على الوصايا الخلقية المهمة حول عدم جرح عواطف الأيتام بالخصوص والأطفال الفقراء على وجه العموم. وعلى سبيل الشاهد أذكر لكم رواية واحدة.

يقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، ضمن بيان واجبات الجيران وحقوقهم: "وإذا اشتريت فاكهة فأهدها له، وإن لم تفعل فأدخلها ستراً ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده"33.

الإنحطاط العائلي

والإنحطاط العائلي عامل آخر من عوامل نشوء عقدة الحقارة والإصابة بالخجل المفرط في الاتصال بالناس. إن المصابين بهذه المشكلة يحسون بعدم الإرتياح في ضمائرهم ويخافون تعيير الناس لهم.

لقد حذر الإسلام أتباعه في تعاليمه الخلقية والإجتماعية من التنابز والسخرية. إن المجرم يجب أن يعاقب حسب التعاليم الإسلامية، ولا يجوز تعييره على ذنبه.

"قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إذا زنت خادم أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يعيّرها"34 فإذا كان المسلم لا يحق له أن يعير الزانية على عملها، كيف يحق له أ 2011-03-31