يتم التحميل...

الوفاء بالعهد ومسؤولية الولدين

تربية الأبناء

الوفاء بالعهد من الصفات الحميدة التي تملك جذوراً فطرية في بناء الانسان. إن الطفل من حين إدراكه معنى العهد والميثاق، يدرك لزوم الوفاء به أيضاً بفطرته. وعلى المربي القدير أن يستغل هذا الالهام الطبيعي عند الطفل، وينمّي فيه هذه الموهبة الفطرية بحيث يجد في الوفاء بالعهد من أولى أدوار طفولته جزءً من سلوكه...

عدد الزوار: 108

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً(الاسراء:34).

الوفاء بالعهد من الصفات الحميدة التي تملك جذوراً فطرية في بناء الانسان. إن الطفل من حين إدراكه معنى العهد والميثاق، يدرك لزوم الوفاء به أيضاً بفطرته. وعلى المربي القدير أن يستغل هذا الالهام الطبيعي عند الطفل، وينمّي فيه هذه الموهبة الفطرية بحيث يجد في الوفاء بالعهد من أولى أدوار طفولته جزءً من سلوكه، ويجد في خلاف ذلك عملاً قبيحاً:

لقد اعتبر الوفاء بالعهد من علائم الإيمان في تعاليم الإسلام، وعليه فإن ركائز ذلك يجب أن تُصبّ من أولى أدوار الطفولة. وسيدور بحثنا في هذا المقال حول هذا الموضوع، ذاكرين الأحاديث التي تتصل بالبحث في الأثناء، ولكن لما كانت تنشئة الطفل على الأخلاق الفاضلة والوفاء بالعهد تقع في الدرجة الأولى على عاتق القائمين بتربيته، فإن من الضروري أن نمهّد للموضوع بمقدّمة عن مسؤولية الوالدين في هذا المجال.

ضمان معيشة الأطفال

كلنا نعلم أن الأطفال تجب نفقتهم على آبائهم، فعلى الأب القادر أن يضمن لأطفاله ما يحتاجون إليه من غذاء ولباس ومسكن، وأن يهيىء لهم وسائل العيش المناسب. لقد احتلت إدارة معيشة الأطفال والحفاظ على سمعتهم وشخصيتهم منزلة سامية من اهتمام الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله الى درجة أنه ورد في الحديث. أن رجلاً من الأنصار توفّي، وخلّف أطفالاً صغاراً، وكان قد صرف ما يملكه من أموال قبيل موته بقصد العبادة وجلب رضى الله مما أدى بأطفاله إلى أن يمدّوا يد العوز والحاجة يوم وفاته، وعندما بلغ هذا النبأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم... "قال لقومه: ما صنعتم به ؟ قالوا: دَفَنّاه. فقال أما إني لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام، تَركَ وُلده يتكفّفون الناس"1.

لا تنحصر مسؤولية الآباء في إدارة المعيشة المادية للأطفال، بل إن عليهم أن يقوموا بتربيتهم تربية إيمانية صالحة، فإن تأديب الأطفال وتربيتهم أهم في نظر الإسلام من الإهتمام باحتياجاتهم الجسدية. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ما نَحَل والد ولداً نحلا أفضل من أدب حسن"2. وعنه عليه السلام: "لا ميراث كالادب"3.

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما حق ولدك فإن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عما ولّيته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عزّ وجل، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه، معاقَب على الإساءة إليه"4.

تربية الطفل فريضة دينية

ليست تربية الأطفال تربية صحيحة واجباً وطنياً وإنسانياً فحسب، بل إنها فريضة روحية مقدسة، وواجب شرعي لا يمكن الإفلات منه. لقد وجدنا في هذا الحديث أن الإمام زين العابدين عليه السلام يصرّح بمسؤولية الأبوين في تربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يعرّض الآباء إلى العقاب.

يقول الإمام الصادق عليه السلام: "وتجب للولد على والده ثلاث خصال: اختياره لوالدته، وتحسين اسمه، والمبالغة في تأديبه"5. من هذا يفهم أن تأديب الولد حق واجب في عاتق أبيه.

وموقف رائع يبيّن فيه الإمام زين العابدين عليه السلام أهمية تأديب الأولاد، استمداده من الله عز وجلّ في قيامه بذلك: "وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم"6.

ما أكثر الأمهات اللائي يعودن أطفالهن على الصفات البذيئة والسلوك الأهوج منذ الصغر، فيظل الأطفال مأسورين لتلك الأخلاق والصفات طيلة أيام حياتهم.

وما أكثر الاباء المجرمين الذين يحتقرون التعاليم الدينية والعلمية، ويصطحبون أطفالهم إلى مجالس اللهو والعبث، ويرتكبون الأفعال القبيحة أمام عيونهم النافذة، وبذلك ينشأ الأطفال نشأة فاسدة... كما أن بعضهم يحملونهم على الإجرام بجسارة شديدة.

الأب الخائن

قبل حوالي خمسة عشر عاماً، وفي وقت متأخر من الليل كنت واقفاً في موقف الباص منتظراً مجيء السيارة، وكان هناك عدة من الأشخاص واقفين في الموقف أيضاً. كان من بين الواقفين رجل أمسك بيده يد طفل لا يتجاوز السادسة من عمره. كان الطفل في حالة غير اعتيادية، وأخيراً جلس على جانب الشارع واستفرغ، فسأل أحد الواقفين أباه ما هو المرض الذي اصيب به ابنك ؟ فأجاب: إنه ليس مريضاً لقد اصطحبته الليلة الى جلسة عند بعض الأصدقاء وهناك ناولته خمراً ! أي خيانة أعظم من أن يأخذ أب ابنه الذي لا يتجاوز السادسة من عمره الى مجلس للشراب، ويناوله خمراً فيجر عليه وسائل الشقاء ؟ ! ألا يجب أن يعاقب هذا الأب ؟! ألا يحق لهذا الطفل أن يلعن أباه المجرم ؟!

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "يا علي، لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما"7.

إن الآباء والأمهات المؤمنين والملتزمين بالتعاليم السماوية قادرون على أن يربّوا أطفالهم تربية لائقة وصحيحة، وأن يبذروا فيهم بذور الإيمان والإطمئنان إلى رحمة الله الواسعة.

"ليس عمل الأم كالرسم حيث يظهر مظاهر الجمال واللطافة على اللوحة، ولا يشبه النحت الذي يخرج من قطعة من الرخام تمثالا. إنها ليست كالكاتب الذي يصب أفكاره المنزهة في قالب من الألفاظ، بل أنها موظفة على أن تظهر بمعونة من الله صورة من القدرة الإلهية في الروح الإنسانية".

"إن عبارة (بمعونة من الله) في النص المتقدم مهمة جدا ً، فإن الأم حين تحس بالعجز تشعر في الغالب بأنها في حاجة إلى الاستناد إلى قوة أعلى وأقدر من طاقتها الفردية".

"لقد جعل كوموله سو بحثه في كتابه يدور حول أمٍ تحمل بين جوانحها كثيراً من الواقعية. هذا الأستاذ القدير في التربية عندما كان يعد تقريراً لإلقاءه في المؤتمر الرابع لشؤون الزواج إلتقى بإمرأة استطاعت بعد موت زوجها أن تربي أطفالها العشرة بموفقية تامة".

تدور بين الأستاذ والمرأة عدة أسئلة وأجوبة. والمرأة تتحدث في اجوبتها عن الله والدعاء والإيمان، وتجد ان نجاحها في تربية أطفالها بصورة صحيحة يستند إلى ثرواتها الإيمانية والمعنوية وفي الختام يسأل الأستاذ:

"فماذا فعلت لأطفالك" ؟

"لم أفعل شيئاً آخر... لقد عملت على اعتقاداتي النفسية، وعمل الله عليها...".

"بهذه الصورة سلكت هذه المرأة طريق تكاملها في ظل قوة الإيمان والعقيدة، في حين أنه كان يساير هذا الموجود السالك نحو التعالي والتقدم، شخصية مربٍ فقير، مزوّد بالقوى والقابليات اللازمة للقيام بعبء مهمة خطيرة".

"لقد استطاعت هذه المرأة بسلوكها الممتاز أن ترقى إلى درجة الأشخاص الذين يعملون لإظهار صورة من القدرة الإلهية في الروح الإنسانية بمعونة الله"8.

في العصر الحديث... العصر الذي يوجه اكثر الناس اهتمامهم فيه الى الشؤون المادية، تعتبر تنمية المواهب الروحية التي هي أساس الفضيلة ورصيد السعادة الحقيقية ذات أهمية بالغة في نظر العلماء والمحققين، انهم ينظرون الى مثل هذه الأمور نظرة التكريم والتقدير.

تنمية الإيمان

يجب على الآباء والأمهات أن ينتبهوا الى مسؤوليتهم الشرعية، ويهتموا بتنمية بذور الإيمان والأخلاق في نفوس أطفالهم. في الوقت الذي يضمنون لهم سلامة الجسم وقوة العقل وطلب العلم، عليهم أن يجعلوا منهم افراداً مؤمنين مخلصين ومستقيمين في سلوكهم... وإن القيام بهذا الواجب المقدس لا يكون إلا في ظل استقامة الوالدين والمربي. إن تربية الطفل من المسائل الدينية والعلمية المهمة، وعلى الوالدين أن يستوعبا واجباتهما في تربيته ويطبقاها في مقام العمل حتى يصلا الى المستوى اللائق الذي يجلب الخير له ولهما.

يجب أن تخضع مسموعات الطفل ومبصراته التي ترد الى مخه عن طريق العين والأذان لرقابة مضبوطة. إن كلمة بذيئة، أو منظراً شاذاً يكفي لأن ينحرف بالطفل عن الصراط المستقيم ويلوّث أذياله إلى الأبد.

"إن تقنية تعليم الأخلاق والعقائد تختلف كثيراً عن التعليم الفكري، ذلك إن معرفة الخير والشر، والقدرة على تملك زمام النفس، وحب الجمال، والإيمان بالله يختلف كثيراً عن تعلّم اللغات أو التأريخ أو الحساب. هذا التعليم التطبيقي لأصول الحياة لا يمكن أن يحصل إلا في محيط تربوي خاص. كيف يمكن أيجاد محيط كهذا ؟ إن هذا الأمر عسير جداً بالنسبة إلى الإنحطاط الخلقي الذي نعيشه في عصرنا".

"إن انسجام البيئة الاجتماعية مع أساسيات التعليم والتربية يستلزم في المرحلة الأولى القيام بعملية تصفية واسعة النطاق، بحيث تعد الرقابة على الأفلام والاذاعة، وغلق كثير من محلات الرقص وشرب الخمر، والتغيير الجذري في عالم المطبوعات التي توضع تحت متناول الاطفال والشبان جزءً من تلك العملية".

"إن المعلمين والآباء والأمهات يحسنون الظن في الغالب ولكنهم لجهلهم يخطئون في الغالب. يجب أن يتعرف آباء المستقبل وأمهاته من جهة، ومعلمو الغد من جهة اخرى، من الآن على الأسلوب التربوي الصحي للطفل. إن تربية الأغنام والدواجن أسهل من تربية الأطفال بكثير، ومع ذلك فان الذي يريد أن يتخصص في تربية الدواجن لا بد أن يقضي فترة من الزمن في القرية أو المعهد الزراعي، ولا يوجد فرد عاقل يعد نفسه لهذا العمل بواسطة مطالعة المجلات أو قراءة كتاب في الحساب أو الفلسفة... ومع هذا فإننا نرى أن هذا العمل الجنوني ترتكبه الفتيات الشابات أي أمهات المستقبل وفي الحين الذي يجهلن كل شيء خارج المنهج الدراسي يقدمن على الحياة الزوجية".

"إن البناء الجسمي والروحي للمرأة والرجل ليس متماثلا وإن إتخاذ أسلوب تربوي واحد للأولاد والفتيات نظرية قديمة تافهة، وهي من مخلفات الفترة غير العلمية التي سبقت تاريخ البشرية"9.

لقد كان غرضنا من هذه المقدمة الموجزة أن نجلب انتباه الآباء والأمهات الى مسؤوليتهم الخطيرة في تربية الأطفال. وأملنا وطيد في ان يعمل الآباء بواجباتهم ويستمدوا العون من الله العلي القدير في القيام بتربية أطفالهم تربية صحيحة، فيجعلوا منهم أفراداً صالحين وأعضاء نافعين للمجتمع.

نقض العهد

إن جميع أفراد البشر من أي أمة كانوا، وإلى أي عنصر انتموا يدركون بصورة فطرية ضرورة الوفاء بالعهد وقبح نقض العهد. كل فرد يدرك أنه إذا تعاهد مع شخص آخر فهو ملزم بأن يفي به، فلو تخلف عنه كان قد ارتكب خطأ، ويحس في ضميره الباطن بالخجل والندم. وكذلك إذا كان قد تعاهد معه شخص فإنه ينتظر بصورة طبيعية أن يفي له بالوعد، فلو تخلف عن ذلك فإنه يحس بأن ذلك الشخص قد ارتكب فعلا قبيحاً.

إن الطفل يدر بفطرته الطبيعية لزوم الوفاء بالعهد في الوقت الذي لا يدرك المسائل العلميه والعقلية. وعندما يعده أبوه بأن يجلب له عند عودته إلى البيت شيئاً من وسائل اللعب فإنه يتوقع بصورة طبيعية أن يفي أبوه بوعده ويطمئن الى هذا التوقع الفطري. فما دام الأب لم يعد، يمني نفسه باللُعبة، وعندما يسمع الجرس يرن ويدخل الأب يتقدم لتناول لعبته، وينظر إلى يد أبيه، فإن لم يكن الأب قد وفى بوعده يتأذى الطفل، ويحس بأن حادثة على خلاف ما كان يتوقع قد وقعت... إن هذا العمل يعتبر سيئاً عند بقية الأطفال أيضاً.

لقد جاء الأنبياء ورسل السماء يؤكدون طوال القرون المتمادية حسن الوفاء بالعهد وقبح نقض الميثاق، وأخذوا يربون البشر على هذا الإدراك الفطري، ويغرسون بذور هذه السجية الفاضلة في نفوس الناس، فهذا العمل موافق للوجدان الأخلاقي الفطري من ناحية، ومنسجم مع الوجدان الأخلاقي التربوي من ناحية اخرى.

الوفاء بالعهد واجب
لقد اعتبر الوفاء بالعهد واجباً شرعياً في الإسلام على جميع المسلمين في مختلف الأمور الفردية والإجتماعية، وقد جاءت نصوص كثيرة تؤكد على هذا الموضوع، واليكم بعضاً منها:

1-
قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً(الأسراء:34).

2-
وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(المؤمنون:8).

3-
 عن موسى بن جعفر عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:"لا دين لمن لا عهد له"10.

4-
سمعت أبا عبد الله يقول: "عِدَة المؤمن أخاه نذرٌ لا كفّارة له"11.

5- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد"12.

6-
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "أقربكم مني غداً في الموقف أصدقكم في الحديث، وأدّآكم للأمانة، وأوفاكم بالعهد، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس"13.

7-
وفي الحديث: "يجب على المؤمن الوفاء بالمواعيد والصدق فيها"14.

8-
قال علي عليه السلام: "وفاءٌ بالذّمم زينة الكرم"15.

ولأجل أن لا يلوّث المسلم نفسه بذميمة نقض العهد عليه أن يقيس قدرته على الوفاء عندما يلتزم بشيء، فإن وجد نفسه عاجزاً عن القيام بعبء ما، عليه أن لا يتعهد به حتى لا يضطر الى التخلف عنه. وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تعد ما تعجز عن الوفاء. لا تضمن ما لا تقدر على الوفاء به"16.

الحقوق الإسلامية والحقوق البشرية

توجد في الإسلام مجموعة من القوانين والأنظمة التي تخص الأمة الإسلامية، فالمسلمون في العالم مكلفون بها وعليهم أن يطبقوها في العلاقات التي تقوم بينهم. لقد روعيت الحدود والحقوق العادلة بالنسبة الى جميع الناس في تلك القوانين، بحيث يأمن المجتمع بتطبيقها جميع المشاكل والمآسي الناشئة من تجاوز البعض على حقوق الآخرين. هذه القوانين يمكن تسميتها بالحقوق الإسلامية.

في قبال هذه القوانين توجد مجموعة أخرى من الأحكام لا تخص المسلمين بل انها تمتاز بكونها عامة وشاملة، وعلى المسلمين أن يطبقوها حتى في العلاقات التي تقوم بينهم وبين بقية الأفراد الذين ينتمون الى مذاهب وأديان أخرى. هذه الطائفة من الأحكام يمكن تسميتها بالحقوق البشرية (يصطلح على الأحكام الإسلامية التي تنظم سلوك المسلمين تجاه غيرهم في المعاملات والمنازعات التي تقوم بينهم، باسم أحكام الذميين والمستأمنين. ولو نقلنا هذا التعبير الى المصطلح القانوني لوجدنا اصطلاح (القانون الدولي الخاص) منطبقا على هذه المجموعة من الأحكام. وفي قبال ذلك (القانون الدولي العام) الذي ينظم علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى)، ومن جملتها قانون لزوم الوفاء بالعهد. فالمسلمون ليسوا مكلفين باحترام العهود والمواثيق فيما بينهم فقط، بل عليهم أن يراعوا مواثيقهم تجاه غير المسلمين من أي أمة كانوا، عليهم أن لا يتسامحوا في ذلك قيد شعرة ولا يتساهلوا في أدائها أبداً.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة ليس لأحد فيهن رخصة: الوفاء لمسلم كان أو كافر، وبر الوالدين مسلمين كانا أو كافرين، وأداء الأمانة لمسلم كان أو كافر"17.

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: "ثلاث لم يجعل الله عز وجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة الى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برَّين كانا أو فاجرين"18.

العهد مع العدو

في العهد الذي بعث به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الى واليه على مصر مالك الأشتر : "وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو البسته منك ذمَّة، فَحُط عهدك بالوفاء، وارعَ ذمتك بالأمانة" ويعلل ذلك بقوله عليه السلام: "فانه ليس من فرائض الله شيء، الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود"19.

إن الإنسان يحب نفسه وما يعود عليه بالنفع قبل كل شيء، وبما أن الوقوف عند العهد والالتزام به قد يتصادم مع المصالح الشخصية والميول النفسية، فإنه يرغب في الخروج على ذلك والفرار من عبء الميثاق. وبالرغم من أن الأفراد يدركون بفطرتهم ضرورة الوفاء بالعهد ويتحدثون عن قيمة ذلك وأهميته، لكنهم في مقام العمل إذا وجدوا منفذاً أو قدرة تذرعوا بها لنقض مواثيقهم. يقول الإمام علي عليه السلام: "الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف"20.

في عصرنا الحاضر يتحدث القادة والزعماء عن العدالة والحرية، يملأون الاذاعات والصحف بالألفاظ الخلابة والعبارات الجذابة التي تحكي عن الحق والانصاف... اما في مقام العمل فغالباً ما يكون النافذ هو القوة والضغط، في حين أن الإهتمام بالحق والإنصاف أقل. يستغل الزعماء الأقوياء سلطاتهم في أيامٍ الحرب أو الأوقات الاعتيادية ويعتدون على حقوق الشعوب الضعيفة ويثبتون عملياً تخلّفهم عن عهودهم التي قطعوها على أنفسهم... أما الشعوب فلضعفها تغضي على الظلم والاضطهاد.

الوفاء بالعهد

ان من أهم مميزات الرجال الالهيين أنهم لا يسيئون استغلال سلطاتهم ولا يتجاوزون على حقوق الآخرين مهما كانوا ضعفاء. في صدر الإسلام عندما كانت تزحف جحافل المسلمين لاعلاء راية الحق والحرية ودحض اساس الشرك والالحاد، وعندما كان الفاتحون يفتحون المدن الكبيرة واحدة بعد الاخرى كان شعارهم الوفاء بالعهود والمواثيق. كان الناس في ذلك العصر يدركون أنهم ملتزمون بهذه الخصلة الحميدة، وكانوا مطمئنين الى عهود المسلمين تجاهم، واثقين الى أن من المستحيل أن ينقضوا عهودهم مهما كانوا يملكون قوة الخروج عليها.

إذا صدر أمان من قبل المسلمين في ساحة الحرب الى العدو، كان الجيش الإسلامي مكلفاً برعاية ذلك الأمان والوقوف عنده. والأمر الذي يجلب الانتباه في هذا الصدد أنه لم يكن إصدار الأمان خاصاً بقائد الجيش بل إن النظام العسكري في الإسلام يعطي الأمان الى العدو تحريرياً أو شفوياً، وعند ذلك يجب على جميع الضباط والجنود أن يلتزموا بذلك. وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الموضوع.

1-
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا أومأ أحدٌ من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين فنزل على ذلك فهو في أمان"21.

2-
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أومى أحد من المسلمين إلى أحد من أهل الحرب فهو أمان"22.

3-
عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"23.

أمان من جندي

خرج فضيل بن زيد الرقاشي مع جنوده لمحاصرة قلعة تسمى بـ (سهرياج) في أيام عبد الله بن عامر بن كريز، وقد سار الى فارس فافتتحها، وكان الجيش قد صمم على أن يفتح القلعة في يوم واحد، يقول فضيل في ذلك:

"... كنا قد ضمنّا أن نفتحها في يومنا، وقاتلنا أهلها ذات يوم فرجعنا الى معسكرنا، وتخلّف عبد مملوك منا، فراطنوه، فكتب لهم أماناً ورمى به في سهم، قال: فرحنا الى القتال وقد خرجوا من حصنهم وقالوا: هذا أمانكم".

لم يكن إعطاء الأمان من مسلم الى الكفار بالأمر المستبعد في نظر الجيش، ولكنهم شكّوا في كون الأمان الصادر من العبد كالأمان الصادر من الحر...

"فكتبنا بذلك الى عمر، فكتب إلينا: ان العبد المسلم من المسلمين ذمته كذمتكم، فلينفذ أمانه... فأنفذناه"24.

إن الوفاء بالعهد واجب لا يمكن التخلف عنه في الشريعة الإسلامية المقدسة، سواء في الحرب والسلم، كان العهد مع مسلم أو كافر.

للوفاء بالعهود والمواثيق اثر حاسم في جميع الشؤون الداخلية والخارجية لكل دولة، وكلما روعيت هذه الخصلة الحميدة في الدولة وجرى الناس على الالتزام بعهودهم، ارتفع مستوى الحياة والتقدم عندهم وارتفعت مكانة الدولة بين الدول الأخرى.

الاتفاقيات الاقتصادية

تشكل الاتفاقيات الاقتصادية والمواثيق المالية أحد الأركان المهمة للمجتمع في جميع دول العالم. ففي الدولة التي يعتبر أفرادها الوفاء بالعهد واجباً من واجباتهم الدينية والاخلاقية، ويهتمون بمراعاة ذلك اهتماماً بالغاً تجري الأمور المالية في تلك الدولة على أساس الثقة المتبادلة وتنضبط المعاملات على أساس من الصحة والدقة، يدفع المدين دينه في الموعد المقرر ويسلم البائع البضاعة حسب ما اتفق عليه مع المشتري... وبصورة موجزة ينال الوفاء بالعهد احتراماً تاماً لدى الجميع وتلتزم جميع الطبقات بذلك. في مثل هذه الحالة يكون التعهد الناشىء من شرف النفس وفضيلة الأخلاق أغلى من أي سند رسمي، وأعظم من أي متاع نفيس.

سند العشرة آلاف درهم

لقد حصل أحد موالي الإمام علي بن الحسين عليه السلام الذين أعتقهم على ثروة لا بأس بها نتيجة لجهوده ونشاطه. وفي بعض الأيام أصيب الإمام عليه السلام بضائقة مالية شديدة، فطلب من مولاه الذي أعتقه يقرضه مبلغاً قدره عشرة آلاف درهم يدفعه إليه عند الإستطاعة فطلب من الإمام سنداً أو وثيقة. مدّ الإمام يده الى طرف رداءه واستخرج هدبة (خيطاً) منه، وقال له: خذ فهذه وثيقتي عندك الى أن أردّ إليك مالك. لقد ثقل على المقرض أن يوافق على وثيقة كهذه ولكنه للنظر الى شخصية الإمام عليه السلام سلّم إليه المال وأخذ الهدبة ووضعها في علبة صغيرة. ثم صادف أن الإمام تيسرت أموره بعد فترة قصيرة فردّ المبلغ الى صاحبه... "ثم قال له: قد أحضرت مالك فهات وثيقتي. فقال له: جعلت فداك ضيّعتها. قال: إذا لا تأخذ مالك مني، ليس مثلي يُستخف بذمّته.

قال: فأخرج الرجل الحُق فإذا فيه الهدبة، فأعطاه علي بن الحسين عليه السلام الدراهم، وأخذ الهدبة فرمى بها وانصرف25".

إن خيطاً من رداء لا قيمة له، ولكن عندما يكون الخيط رمزاً لتعهد صادر من شخص شريف فان قيمته ترتفع الى أن يصبح وثيقة لدين عن عشرات الآلاف من الدراهم والدنانير، ويتقبله الدائن بكل ثقة واطمئنان.

إن الوفاء بالعهد من صفات الله عز وجل. فالله يصرح بذلك في القرآن الكريم: ﴿... إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(الرعد:31). والإنسان الذي لا يخلف وعده يكون متصفاً باحدى الصفات الالهية، وهذا هو علامة لمرتبة من مراتب الكمال والفضيلة.

المتهم البريء

ظهر بعد واقعة صفين حزب جديد باسم الخوارج، ضمّ رجالاً متهورين وجهلاء بحقيقة العلم والدين، قاموا بجرائم عظيمة طوال سنين طويلة. ولقد قامت السلطات الزمنية بمكافحة هذا الحزب بصور مختلفة. وفي زمن الحجاج الثقفي اتّهم جماعة بالانتماء الى هذا الحزب فأحضروا الى مجلس الحجاج ليعاقبهم على ذلك، فتحقق عن وضع كل منهم وعيّن لكل عقوبته، وعندما وصل إلى آخر رجل منهم قام المؤذن للأذان معلناً دخول وقت الصلاة، فقام الحجاج وسلّم المتهم الى احد الحاضرين واسمه (عنبسة) وقال له: خذه معك الى البيت وأحضره لي غداً حتى أقرر عقوبته فنفذ عنبسة الأمر وخرج معه من قصر الامارة. وفي الطريق قال له المتهم: هل يرجى منك خير ؟ فقال له عنسبة: حدثني بما تريد فعله أوفق لأعمل لك خيراً. فقال المتهم: والله لست خارجياٌ، لم أخرج على مسلم، ولم أشهر سيفي على أحد، وأنا بريء من هذه التهمة المنسوبة الي وبالرغم من أنهم قبضوا علي وأنا بريء فان أملي برحمة الله العظيم وطيد، وأعلم أن فضله سيشملني ولا أعذّب من دون ذنب ولكن أرجوك ان تسمح لي بالذهاب الى اهلي هذه الليلة لأودعهم وأوصيهم بوصاياي واؤدي حقوق الناس وسأحضر عندك غداً صباحاً. يقول عنبسة: لقد استغربت من هذا الطلب الذي توجه به المتهم فلم أجبه، فكرّر عليّ السؤال، حتى أثر كلامه في نفسي، وخطر ببالي أن أتوكل على الله وأنزل عند رغبته فصممت على ذلك وقلت له: اذهب ولكن يجب أن تعاهدني على الرجوع غداً، فقال الرجل: عاهدتك على أن أحضر غداً صباحاً وأشهد الله على هذا العهد، ثم ذهب حتى غاب عن عيني. ولكن ما إن رجعت الى نفسي حتى اضطربت اضطراباً شديداً وندمت على ما فعلت فقد عرّضت نفسي لغضب الحجاج من دون سبب، ولازمني الاضطراب حتى ذهابي الى البيت فذكرت ذلك لأهلي فلاموني... ولكن لات حين لوم.

لم أنم تلك الليلة، كنت أتململ كالسليم، وأتقلب كالثكلى، وعند الصباح وفى الرجل بعهده فتعجبت من مجيئه وقلت له: لماذا حضرت ؟ قال: من آمن بالله واعتقد قدرته وعظمته وعاهد على أمر وجعل الله شهيداً على عهده فلا يخلف عهده. فأخذته الى قصر الامارة في الساعة المقررة وذكرت للحجاج ما جرى بيني وبينه الليلة السابقة، فتعجب من ايمان الرجل ووفاءه بعهده، ثم قال لعنبسة: أتريد أن أعفو عنه لأجلك فقال: لو تتكرم عليّ بذلك فلك المنة العظيمة، فعفا الحجاج عن المتهم وأخرجه عنبسة من دار الامارة وقال له بكل لطف ولين: اذهب فأنت حر.

فذهب الرجل دون أن يشكر لعنبسة جميل صنعه ويقابل إحسانه بالإحسان. فتألم عنبسة من هذه البرودة، وهذا التنكر للحق، وقال في نفسه: لعله مجنون.

وفي اليوم الثاني حدث ما لم يكن بالحسبان فقد حضر الرجل عند عنبسة وشكره على انقاذه من الورطة التي وقع فيها. ثم قال له: إن المنقذ الحقيقي هو الله تعالى وكنت أنت الواسطة في ذلك. فلو كنت أشكرك بالأمس على إحسانك كنت قد أشركتك بالله في النعمة التي أنعم بها عليّ وهذا ليس بمستحسن، فرأيت من اللازم أن أذهب لأداء واجب الشكر والحمد بين يدي الله تعالى أولاً، ثم أحضر لتوجيه الشكر لك. ثم شكر لعنبسة جميل صنعه وإحسانه واعتذر منه كثيراً وانصرف26.

أثر الوفاء بالعهد

الوفاء بالعهد أحد الأركان المهمة للسعادة الإنسانيّة، الوفاء بالعهد احد الفضائل الخلقية العالية للإنسان، الوفاء بالعهد قادر على أن يردع شخصاً سفاحاً مثل الحجاج عن إراقة دم شخص بريء.

الحياة على أساس الفضيلة

في الدولة التي يلتزم الأفراد فيها بعهودهم ويقفون عندها تجري الأمور الاقتصادية والاجتماعية والعائلية على أساس صحيح... هناك تقوم الحياة على أساس الفضيلة الانسانية، وعلى العكس فإن المجتمع الذي يتّسم بتهرّب الأفراد فيه من عهودهم والإفلات عن تعداتهم من دون شعور بالمسؤولية تجاهها تخرج الأمور عن مجراها الطبيعي وتحيط بهم المآسي والمشاكل بشتى صورها، وعند ذاك تقوم المحاكم القضائية والسلطات التنفيذية بمراقبة تنفيذ الالتزامات... الأخلاق والشعور بالمسؤولية تخلي مكانها لقاعات المحاكم، وتتمثل المخالفات بصورة إضبارات مدنية وجنائية وهكذا تستنزف الطاقات الإنسانية والمالية ويضطر المتنازعون الى الرجوع الى الوسائل التنفيذية من حجز وسجن وما شاكل ذلك.

يذكر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر في العهد الذي بعث به اليه أن احذر نقض العهود ويقول في علة ذلك: "والخلف يوجب المقت عند الله والناس"27.

مما لا شك فيه أن نقض العهد يحطم شخصية الإنسان. ومهما كان الشخص الناقض للعهد عظيما في المجتمع ويمتاز باحترام الناس له وتقديرهم إياه فإنه ينحط في أعين الناس على أثر نقضه للعهد. كل فرد يدرك بصورة طبيعية أن الشخص الناقض للعهد يرتكب عملاً قبيحاً... الفقير والغني، الكبير والصغير، كل الناس يرون أنّ لهم أن يلوموا الشخص الذي لا يلتزم بعهوده، وهذا يدلنا على أن الإنسان يدرك ضرورة الوفاء بالعهد بفطرته، ويرى أن التخلف عنه تخّلف عن قانون الفطرة.

تنمية الوفاء بالعهد عند الطفل

لأجل أن يحيا الوفاء بالعهد في المجتمع، وتلتزم جميع الطبقات بهذا الواجب الإنساني، يجب أن تبذر بذور هذه الخصلة الحميدة في نفوس الأطفال من أولى أدوار الطفولة، ومن حين إدراكهم لمعنى (العهد). يجب أن يتلّقوا هذا الدرس القيم نظرياً وعملياً حتى يستقر في نفوسهم بصورة ملكه ثابتة مستقرة. يجب أن يربّى الأطفال بصورة يجدون معها الوفاء بالعهد من واجباتهم القطعية والضرورية، فلا ينقضون عهودهم وحسب بل لا يسمحون لهذه الفكرة الفاسدة أن تمر بخواطرهم، وهذه التربية لا تحصل إلا في المحيط الطاهر والسليم الذي أعدّ للطفل. المحيط الذي لا يعرف نقض العهد والخداع. إن الطفل يتخذ من كل كلام يسمعه أو عمل يشاهده، صالحاً كان أو فاسداً، قدوة له يجري عليها في حياته، وفي محيط الأسرة يخضع قبل كل شيء لسلوك الوالدين. ففي الأسرة التي يلتزم الأبوان فيه بعهودهما، ولا يخلفان مواعيدهما، ولا يخدعان الطفل... ينشأ الأطفال على هذه الفضائل الحميدة، ويلتزمون بعهودهم أيضاً، أما الابوان اللذان يرتكبان الأفعال الفاسدة فإن طفلهما يتأثر بأفعالهما وينشأ على تلك الأساليب المنحرفة.

"لأجل أن تكون الإطاعة لقوانين الحياة تامة، يجب أن تظهر بصورة فطرية".

"إن الشخص الذي اعتاد منذ بداية حياته على معرفة الخير والشر، يسهل عليه اختيار الفضيلة والاجتناب عن الرذيلة في جميع أيام عمره، وكما يبتعد عن النار يتجنّب الأقتراب من الرذائل. فنقض العهد والكذب والخيانة لا تعدّ أعمالاً قبيحة في نظره، بل تعدّ مستحيلة عنده ولإيجاد ردود الفعل هذه في الفرد يجب توفر محيط يعني فيه بالفضائل عناية بالغة. إن الإنسان يميل كالقرد الى التقليد بغريزته ولكنه يقلد الشر أسهل من الخير. وهكذا يقتبس الطفل سلوك الأفراد الذين يعرفهم أو يسمع تاريخ حياتهم أو يقرأه، ولهذا فانه يتخذ من الأصدقاء والاساتذة، الأب والأم، وبصورة خاصة نجوم السينما، والشخصيات الحقيقية أو الخيالية التي يقرأها في المجلات والصحف... قدوة له في حياته. وكما يقول (فلتون) فإن الأطفال لو سلّموا في منزلق تقليدهم للغير الى أفراد بعيدين عن الفضيلة، نشأت من ذلك نقائض كبيرة في سلوكهم. إن المربي الجيد هو الذي يعتقد بما يقول ويطبقه على نفسه28".

المدرسة الأولى للطفل

تعتبر الأسرة بمثابة المدرسة الأولى للطفل وعلى الوالدين أن يهيئا الظروف المناسبة في محيط الأسرة. ولهذا فقد جاءت الروايات الإسلامية تؤكد على المسؤولية العظمى للوالدين في تربية الأطفال، وتسدي لهما النصائح المفيدة في هذا المجال لقد تحدّث الإسلام عن كل خصلة من الخصال الحميدة والملكات الفاضلة بصورة مستقلة، ومن ذلك الوفاء بالعهد:

1- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم فوفوا لهم، فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم"29.

2-
عن كليب الصيداوي قال: قال ابو الحسن عليه السلام: "إذا وعدتم الصبيان فوفوا لهم، فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم. إن الله عز وجل ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان"30.

3-
عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله عليه وآله "إذا وعد احدكم صبيه فلينجز"31.

4-
عن علي عليه السلام، قال: "لا يصلح الكذب جدُُّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له"32.

تنمية الفطريات عند الطفل

إن الفطريات الأولية للإنسان تشكل الثروات التي أودعها الخالق العظيم لضمان سعادة الإنسانية في نفس كل طفل. فإن جوبهت الفطريات عند الطفل بالتنمية الصحيحة والحماية العلمية وخرجت من عالم القوة الى حيّز الفعل كانت الأساس لسعادته، وبقيت الضمان الحقيقي لرقيه طيلة أيام حياته. وعلى العكس لو أهمل المربي قيمة الفطريات ولم يعتن بها، بل قام بتربية الطفل طبقاً للأساليب الخاطئة فإنه يتطبّع على الانحراف والفساد ويفقد ثرواته الفطرية بالتدريج، ويكون في النهاية عضواً فاسداً في المجتمع.

ومن الفطريات عند الإنسان إدراك لزوم الوفاء بالعهد. وكما أن حب الذات، والغريزة الجنسية، والحاجة الى الغذاء والمأوى... من المقومات الضرورية للحياة، خلقها الله تعالى بصورة غرائز في طبيعة الإنسان فان الوفاء بالعهد من المقومات الضرورية لسعادة المجتمع، وقد جعل الله تعالى إدراك حسنه وضرورته في باطن كل انسان.

الادراك الفطري للوفاء بالعهد بذرة غرسها الله تعالى في تربة قلب الطفل، والأساليب التربوية الصحيحة التي يستخدمها الوالدان بمنزلة سقي تلك البذرة لإنباتها. فإن لم يُخدع الطفل في العهود والمواعيد التي تمنح إياه، فإن هذه البذرة الفطرية تضرب بجذورها في قلبه، ويلتزم بعهوده فينشأ إنساناً وفياً دون أن يفكر في نقض العهد، أما إذا كان الوالدان ينقضان عهودهما، ويخدعان الطفل، يعدانه ثم لا يفيان له، أو يلتزمان أمامه لشخص آخر بشيء ثم لا ينفذان ما التزما به، فإن الطفل ينشأ نقاضاً للعهود وخداعاً، لا يشعر بمسؤولية تجاه وعوده. إن الوالدين الناقضين لعهودهما يلقنان الطفل بسلوكهما المنحرف درس الخروج عن العهد والتخلّف عنه، ويعلّمانه أن الانسان يستطيع أن يكذب، أن يخدع الناس، أن ينقض العهد.

"لاحظوا أننا عندما نعجز عن تهدأة الطفل وإسكاته بالطرق الاعتيادية والطبيعية نلجأ الى الخديعة، نتشبث بالوعود الزائفة، ونركن الى التهديد والوعيد. ما أكثر الامهات اللائي يعجزن عن إسكات اطفالهن عندما يردن الخروج من البيت فيعمدان الى أن يعدنهم بشراء بعض الفواكه أو الدمى عند العودة، بينما يراهن الأطفال عند عودتهن الى البيت صفر اليد. ما اكثر الأمهات اللائي يكذبن على الطفل عندما يردن أن يناولنه دواء مرأ فيقلن له: إنه حلو. هذه الأمثلة كثيرة الى درجة أننا نتمكن مع الأسف أن نملأ الصحائف الطوال عن هذا الموضوع، كثيراً ما نعد الأطفال المساكين بوعود زائفة بحيث يمكن ذكر آلاف الأمثلة بهذا الصدد".

"السيارة مستعدة، والأب يريد أن يرجع من المصيف الى المدينة، في اللحظة التي يريد الركوب يركض طفله الصغير نحوه ويرجوه أن يصحبه معه الى المدينة يصر كثيراً، ويلح، وبما أنه لم يعوّد أن يرى في (كلا) جواباً قطعياً لا يقبل النقض لا يكف عن الالحاح، عندما يحس الأب أن صرف الطفل عن فكرته هذه ليس بالأمر اليسير يلجأ الى الطريقة التالية".

"يقول له: عزيزي، لا يمكن أن أصحبك معي الى المدينة بهذه الصورة، إذهب والبس ملابسك الأنيقة".

"يذهب الطفل وملؤه اعتماد على أبيه لتبديل ملابسه، ولكنه عندما يعود لا يجد في نهاية الشارع غير الغبار المتصاعد وراء سيارة أبيه. ينظر إلى هذه الحيلة، يستمر في مكانه، يجزع يصيح: إنك خداع كذاب...إن فرصة تعوّده على الكذب حتمية"33.

في جميع الدول الغربية والشرقية في العالم آباء وأمهات كثيرون غافلون عن التربية الصحيحة لأطفالهم، يلوثونهم عن علم أو جهل بالصفات الذميمية. فالآباء والأمهات الذين يكذبون وينقضون عهودهم، ويخدعون أطفالهم، ولا يفون بوعودهم تجاههم يعلّمونهم دروس الانحراف، ويجرمون في حقهم وحق المجتمع الذي يقوم عليهم.

إن قلب الطفل كعدسة تصوير، يلتقط الصور المختلفة من أفعال والديه وأقوالهما، وتعتبر مشاهداته ومسموعاته في دور الطفولة منهاجاً لحياته المقبلة، وهكذا يجب أن نهتم بالتعاليم الصالحة وغير الصالحة التي يتلقاها الطفل من والديه او معلّميه، فقد يتأثر الطفل بمشاهدة عمل ما أو سماع كلام ما الى درجة أنها تبعث أعمق الجذور في نفسه، ولا تزول آثار ذلك مدى الحياة، وربما أدت الى قلب مجرى الحياة بصورة تامه.

التهم الباطلة

يركن بعض الزعماء في نشاطاتهم السياسية، وفي الحرب الباردة التي يشنونها ضد رقبائهم الى اسلوب الدجل والافتراء وإلصاق التهم الباطلة بمعارضيهم. ومما يؤسف له أن هذا الأسلوب المنحرف كان موجوداً في العصور السابقة وعصرنا هذا، وقد وقعت فيه الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، قليلاً أو كثيراً.

لقد أقدم على هذا الأسلوب المنحرف معاوية بن أبي سفيان، بغية الحفاظ على كرسي الخلافة الإسلامية لبضعة أيام، ولغرض الوصول الى الامارة على الناس... فأخذ يلصق التهم الباطلة بالمثل الأعلى للإيمان والإنسانية علي بن أبي طالب عليه السلام.

لقد سحق معاوية الأصول الإنسانية والإسلامية، واتهم علياً بترك الفرائض والانحراف عن الطريق المستقيم، وصرف في سبيل ذلك قسطاً عظيماً من بيت مال المسلمين. أمر جميع الموظفين والعسكريين أن يشتموا علياً في خطبهم بعد حمد الله والثناء على نبيه... الخطباء على منابرهم، والمعلمون في مدارسهم، واكثر الناس في أنديتهم ومجالسهم أخذوا يعتبرون سب علي من واجباتهم اليومية، وكانت هذه الخطة المشؤومة قدوة لجميع الرعية.

كان في أرجاء الدولة رجال شرفاء ومؤمنون يعرفون علياً حق المعرفة وكانوا على علم واسع بمكائد معاوية وأساليبه في الدعاية، ولكنهم كانوا يفضلون السكوت خوفاً على أرواحهم من أن تزهق، وعلى دماءهم أن تراق. وإذا صادف أن صرح بعضهم بما يحمله من شعور تجاه ذلك الإمام العظيم في بعض الظروف والمناسبات، فقد كان يلاقي مصيره الأسود على يد معاوية أو جلاوزته !34.

هذه البدعة الخائنة كانت قد بعثت بجذورها في قلوب مختلف الطبقات إلى درجة أنها ظلت عالقة بأذيال الناس حتى بعد موت معاوية بسنوات طوال، فقد كان سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام متمثلا بصورة واجب ديني عندهم.

وعندما تولى عمر بن عبد العزيز زمام الأمر، وجلس على كرسي الخلافة، قام بكل عزم وقوة لاقتلاع جذور هذه الوصمة التأريخية الكبيرة فبدأ بأسلوب حكيم يجلب شعور وزرائه وقواده الكبار الى جانبه وتحمل في سبيل ذلك صعوبة بالغة، ثم أمر جميع ولاته بأن يقاوموا كل حركة تحاول أن تذكر الإمام علياً عليه السلام بسوء، وحثهم على معاقبة من يخالف هذا الأمر... وتوفق بعد جهد طويل الى استئصال جذور هذه الوصمة من أذيال المجتمع الإسلامي: وبهذا استطاع أن يكسب شعبية منقطعة النظير، واسترت الندوات والمجالس تذكره بخير وتمجد فعلته تلك.

تأثير كلام المعلم

هذا الكفاح المقدس الذي غير وجه الأمة الإسلامية، وحول مجرى السياسة العامة للدولة آنذاك، كان مستنداً إلى عزم الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهو نفسه يعزو السبب في ذلك الى أيام طفولته، وإلى كلمة سمعها من أستاذه. والآن إليكم القضية كما يحكيها لنا بنفسه:

"كنت أطلب العلم في المدينة وكنت ملازماً لخدمة عبيد الله بن عبد الله ابن عقبة بن مسعود، فبلغه أني أسبّ علياً عليه السلام كسائر الأمويين. فأتيته يوماً وهو يصلي، فأطال الصلاة. فقعدت انتظر فراغه فلما فرغ من صلاته إلتفت إلي. فقال لي:

متى علمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم ؟!

قلت: لم اسمع ذلك.

قال: فما الذي بلغني عنك في علي ؟!

فقلت: معذرة إلى الله وإليك...

وتركت ما كنت عليه"35.

الحوار الذي جرى بين الاستاذ والتلميذ في المدينة كان قصيراً جداً، ولم يكن أحد منهما يتصور أن هذه الجمل ستكون منشأ لانقلاب عظيم في الأمة الاسلامية. ولكن كلام الأستاذ في ذلك اليوم أثر في قلب الطفل تأثيراً بالغاً... ومرت الأعوام وإذا بالطفل يشب ويصبح في عداد الرجال البارزين في المجتمع. ثم تقع الحوادث المفاجئة وتحدث تحولات عظيمة في الدولة، ويجلس طفل الأمس على كرسي الخلافة ويأخذ بزمام الملايين من الناس !

كان كلام المعلم بمنزلة البذرة التي بُذرت في قلب الطفل آنذاك، ثم جاءت عوامل الرئاسة والسلطة فعملت على تنمية تلك البذرة، وأخيراً ظهرت بصورة حقل كبير للسعادة، واستفاد ملايين الناس من ذلك وتخلصوا من البدعة الجائرة المتمثلة في سب علي بن أبي طالب عليه السلام.

يستفاد من هذه القضية وقضايا مماثلة لها أن الواردات الفكرية للأطفال تمثل المنهاج العام لحياتهم الإجتماعية، وإن الخواطر الصالحة أو الفاسدة التي تستقر في ذهن الطفل لا تمحى، بل تظهر آثارها الخيرة او الشريرة في دور الشباب.

يجب على الآباء والأمهات أن يتنبهوا الى المسؤولية الخطيرة الملقاة على عواتقهم ويحذروا من الكلام أو السلوك البذيء أمام الأطفال، ويربوا أفلاذ اكبادهم منذ البداية على الطهارة والصدق، ويؤدوا واجبهم الديني المقدس من هذا الطريق.

يجب على المعلمين والمدرسين أن يلتفتوا في الصف إلى ما يقولون ويفعلون، وعليهم أن يحذروا من كل ما يشين، فكما أن الكلمة الفاضلة والمناسبة التي صدرت من معلم لائق استطاعت أن تؤثر في نفس عمر بن عبد العزيز عندما كان طفلاً، وظهرت ثمار ذلك بعد عدة أعوام في انقاذ ملايين الناس مما كان أصابهم من انحراف... كذلك الكلمة الشريرة تستطيع أن توجد انحرافاً في فكر الطفل وتؤدي إلى مآس عظيمة لا تجبر، له وللمجتمع الذي يعيش فيه.

*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج2، ص5-27.


 

 

1- قرب الاسناد ص 31.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2-625.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 831-ط. ايران.
4- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 232.
5- تحف العقول ص 322.
6- الصحيفة السجادية - دعاؤه لولده.
7- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 5-115.
8- ما وفرزندان ما ص 18.
9- راه ورسم زندكى، تأليف: الكسيس كارل ص 164.
10- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 16-144.
11- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2-363.
12- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2-364.
13- تاريخ اليعقوبي ج 2-60.
14- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2-85.
15- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 780.
16- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 801.
17- مجموعة ورام ج2-121.
18- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2-162.
19- نهج البلاغة، شرح محمد عبده ج3-117.
20- نهج البلاغة، شرح الفيض الاصفهاني ص 672.
21- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2- 250.
22- المصدر السابق ج2-250.
23- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2-250.
24- معجم البلدان للحموي ج3-290.
25- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 11-42.
26- جوامع الحكايات ج1-71.
27- نهج البلاغة، شرح محمد عبده ج3-120.
28- راه ورسم زندكى ص 162.
29- الوسائل للحر العاملي ج5-126.
30-الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6-50.
31- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج.
32- وسائل الشيعة للحر العاملي ج3-232.
33- ما وفرزندان ما ص67.
34- في التاريخ شواهد ناصعة على الصراحة التي اتبعها ثلة من المؤمنين بحقيقة الإسلام بالنسبة إلى تفنيد التهم الباطلة التي كان يلصقها أعداؤه إلى أعظم قائد من قادة المسلمين، وأول إمام من أئمتهم... إن فات المؤرخين حصرها فلم يفتهم تدوين طرف من أخبار تلك الثلة الخيّرة أمثال: ميثم التمار وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري وغيرهم.
35- الكامل لأبن الاثيرج5-17.

2012-08-29