قاعدة الموازنة في القرآن الكريم
السير والسلوك
عند ملاحظة مجموع الآيات المتقدّمة تظهر الموازنة بين المعنويّة الفرديّة والحياة الاجتماعيّة كقاعدة قرآنيّة واضحة، ومع ذلك نذكر هنا ما جمع بين هذين الأمرين ..
عدد الزوار: 305
عند ملاحظة مجموع الآيات المتقدّمة تظهر الموازنة بين المعنويّة الفرديّة والحياة الاجتماعيّة كقاعدة قرآنيّة واضحة، ومع ذلك نذكر هنا ما جمع بين هذين الأمرين في سياق واحد، فقد قال تعالى: ﴿إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾.
فاللّيل يناسب الخَلْوة مع الله تعالى، وتعزير الجانب الروحيّ عند الإنسان، بينما النهار يناسب السَّبْحَ في المجتمع، وفي سائر أعمال الإنسان الدنيويّة والآخرويّة.
قاعدة الموازنة في الأحاديث الشريفة
بالرغم من أنّ الروايات السابقة توضح قاعدة الموازنة هذه، إلّا أنّا نعرض رواية جمعت بينهما في سياق واحد، وهي ما ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام: "خصلتان من كانتا فيه وإلّا فأعْزَبَ، ثمّ أعزَبَ، ثمّ أعزَبَ".
قيل: وما هما: قال:
1 - الصّلاة في مواقيتها والمحافظة عليها.
2 - والمواساة".
فالصّلاة في وقتها مثال للمعنويّة الفرديّة، والمواساة مثال للحياة الاجتماعيّة وخدمة الآخرين.
الموازنة في حياة الرسول الأكرم
إنّ حياة النبيّ الأعظم صلى الله عليه واله مليئة بالشواهد الدالّة على مراعاته الموازنة.
ومن تلك الشواهد ما ورد عن الإمام الحسين عليه السلام: "سألت أبي عن دخول النبيّ صلى الله عليه واله فقال: كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك، وكان إذا آوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاٌ لله عزَّ وجلَّ، وجزءاَ لأهله، وجزءاً لنفسه، ثمّ جزَّءٌ جزأه بينه وبين الناس، فيرُدُّ ذلك على العامّة والخاصّة، ولا يدّخر عنهم شيئاً".
الإمام عليّ عليه السلام سيّد الموازنة في القرآن
لعلَّ أروع تطبيق عرضه القرآن الكريم لقاعدة الموازنة المعنويّة الفرديّة وخدمة الآخرين، هو ما أنزله الله تعالى في أمير المؤمنين عليه السلام حينما تصدَّق بخاتمه وهو يصلّي.
وفي تفصيل هذه الحادثة العظيمة ذكر الشيخ الطبرسي في مجمع البيان بإسناده عن عباية بن ربعي قال:
بينما عبد الله بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله إذ أقبل رجل متعمِّم بعمامة...
فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله، إلّا قال الرجل: قال رسول الله.
فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟
فكشف العِمامة عن وجهه وقال: يا أيُّها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أُعرِّفه بنفسي، أنا جُنْدُب بن جنادة البدريّ أبو ذرّ الغفاريّ، سمعت رسول الله بهاتين وإلا فَصَمَّتا، ورأيته بهاتين وإلا فعَمِيَتا، يقول: "عليٌّ قائد البررة، وقاتل الكَفَرة، منصور من نصره، مخذول من خذله".
أمّا أنّي صلّيت مع رسول الله يوماً من الأيّام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللَّهمَّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً.
وكان عليٌ راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى إليه، وكان يتختّم فيه، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعد رسول الله، فلمّا فرغ النبيّ من صلاته، رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللَّهمَّ إنّ أخي موسى سألك فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي*وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فأنزَلْتَ عليه قرآناً ناطقاً: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا، اللَّهمَّ وأنا محمّد نبيُّك وصفيُّك، اللَّهمَّ فاشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشْدُدْ به ظهري".
قال أبو ذَرّ: فوالله ما استتمَّ رسول الله الكلمة حتّى نزل عليه جبرائيل من عند الله فقال: يا محمّد، إقرأ.
قال وما أقرأ؟
قال إقرأ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون﴾َ.
فالإمام عليّ في هذه الحادثة جمع بين عملين عظيمين في وقت واحد، هما: الصّلاة والتصدُّق على الفقير، ليرسم قاعدة الموازنة في قُمّة صورها. فالاختلاء مع الله تعالى والتوجُّه إليه بقُمّة المعنويّة القلبيّة لم يَصْرِفا عليّاً عن العمل الاجتماعيّ وخدمة الآخرين. وقد حيَّرت هذه الحادثة من لم يلتفت إلى قيمة الموازنة في هذا العمل فتعجَّب من فعل أمير المؤمنين هذا.
فمن المعروف أنّ الإمام عليّاً كان في صلاته يستغرق في الله إلى حدٍّ رُوِي أنّه وقع في رجله نَصْلٌ، فلم يكن إخراجه، فقالت السيّدة فاطمة: "أخرجوه في حال صلاته، فإنّه أثناء الصّلاة لا يحسُّ بما يجري عليه، فأُخْرِجَ وهو في صلاته".
من هنا ورد أنّ ابن الجوزي اعترض على بعض الخطباء بأنّ عليّاً مع استغراقه الكامل في ذات الله، لدى الصّلاة، كيف التفت إلى السائل وأعطاه خاتمه!!
فأجاب الخطيب بالبداهة:
يَسْقِي ويَشْرَبُ لا تُلهيهِ سَكْرَتُه
عن النديم، ولا يلهو عن الكاسِ
أطاعَهُ سُكْرُه حتّى تمكَّنَ من
فعل الصُّحاةِ فهذا أفضلُ الناسِ
نعم، إنّ القيمةَ الكبرى لعمل أمير المؤمنين والذي استنزل آية الولاية الكبرى هي أنّه جمع بين قُمّة التوجّه إلى الله تعالى، في حالته المعنويّة، وبين قضاء حاجة الفقير بالتصدُّق عليه.
الرسول الأكرم صلى الله عليه واله في مواجهة الإفراط في المعنويّات
ذكرنا، سابقاً، المسلك المفرط في المعنويّات والمنحاز إليها على حساب الحياة الاجتماعيّة. ويبدو أنّ هذا المسلك كان على عهد رسول الله الذي واجهه بشدّة تبدو من خلال الروايات التالية:
1 - عن الإمام عليّ قال: "إنّ جماعة من الصحابة كانوا حرّموا على أنفسهم النساء، والإفطار بالنهار، والنوم باللّيل، فأخبرت أمُّ سَلَمة رسول الله فخرج إلى أصحابه، فقال: أترغبون عن النساء؟! إنّي آتي النساء، وآكل بالنهار، وأنام باللّيل، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي...".
2 - عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: "جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبيّ صلى الله عليه واله فقالت: يا رسول الله إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم اللّيل. فخرج رسول الله صلى الله عليه واله مغضباً يحمل نعليه حتّى جاء إلى عثمان، فوجده يصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله فقال له: يا عثمان، لم يرسلني الله بالرهبانيّة، ولكن بعثني بالحنيفيّة السّمْحة، أصوم وأُصلّي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنَّ بسنّتي، ومِن سنّتي النكاح".
3 - عن الصّادق عليه السلام قال: "إنّ ثلاث نسوة أتين رسول الله فقالت إحداهنّ: إنّ زوجي لا يأكل اللّحم، وقالت الأُخرى: إنّ زوجي لا يشمّ الطيب، وقالت الأخرى: إنّ زوجي لا يقرب النساء. فخرج رسول الله يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللّحم، ولا يشمّون الطيب، ولا يأتون النساء؟ أما إنّي آكل اللّحم وأشمّ الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي".
الإمام علي عليه السلام في مواجهة الإفراط في المعنويّات
دخل الإمام عليّ عليه السلام في البصرة على العلاء بن زياد الحارثيّ، وهو من أصحابه، يعوده، فلمّا رأى سَعَةَ داره قال: "ما كنت تصنع بسعة هذه الدار وأنت إليها في الآخرة، كنت أحوج؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تَقْري فيها الضيف، وتصل فيها الرَّحِم، وتُطلع منها الحقوق مطالعها، فإذاً أنت قد بلغت بها الآخرة".
فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: عليَّ به، فلمّا جاء قال: "يا عُدوَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمتَ أهلك وولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيّبات، وهو يكره أنّ تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك!".
قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك.
قال عليه السلام: "ويحَكَ إنّي لستُ كأنت، إنَّ اللهَ - تعالى - فرضَ على أئمَّة العَدْلِ أنّ يُقَدِّروا أنفسَهم بِضَعَفَةِ الناس؛ كي لا يتبيَّغَ بالفقيرِ فقْرُه".
زهد سلمان
ويبدو أنّ هذا النمط من التفكير واجه سلمان الفارسيّ المحمّديّ حينما علم البعض أنّ سلمان كان إذا أخذ العطاء من بيت المال رفع منه قوته لسنته حتّى يحضر عطاؤه من قابل، فقيل له: يا أبا عبد الله، أنت في زهدك تصنع هذا؟!! وإنك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غداً.
فكان جوابه: "ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليَّ الفناء؟ أو ما علمتم، يا جهلة، أنّ النفس تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يُعْتَمَدُ عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها أطمأنت؟".
تطبيقات
الحالة الأولى
قد يقول البعض: إنّ علاج الآخرين إنما يصحُّ لي حينما لا يضرُّ بحالتي العرفانيّة أو يزاحمها، فإنّ حصل الضرر أو المزاحمة فإنّي أكتفي بنفسي، ولا أتدخّل في علاج الآخرين، والدليل على ذلك قوله تعالى:﴿ ... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم﴾ْ.
الجواب: إنّ هذا القول يتناقض مع الآيات الآمرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعنى الآية السابقة هو عدم التحسُّر على الذين لا ينفعهم الإرشاد والهداية، وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾
الحالة الثانية
قد يقول البعض: طالما أنّ الإسلام منع الترهيب، فيصحّ أنّ أتنعمَّ بالدنيا بقدر ما أريد من دون أنّ يمنع هذا من سلوكي وسيري في سبيل الله تعالى.
الجواب: صحيح أنّ المؤمن يحقّ له أنّ يتمتّع بالدنيا، لكن عليه أنّ ينتبه إلى الأمور التالية:
الأوّل: يجب أنّ يؤدي ما عليه من حقوق وواجبات ويلتفت إلى عدم ارتكاب أيّ محرَّم.
الثاني: ينبغي أنّ لا يغفل عن مواساة الآخرين في ما أنعم الله به عليه.
الثالث: ينبغي أنّ لا يصل تنعُّمُه بالنّعم المحلّلة إلى مستوى تعلّق القلب بها فيأسى على ما فاته، بل ينبغي أنّ يكون دائماً في حالة الرّضا بقضاء الله في السرَّاء والضرَّاء ليكون محقّقاً للهدف من قوله تعالى:﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم﴾ْ.
فليس الزهد أنّ لا يملك الإنسان شيئاً، إنَّما الزهد أنّ لا يملكه شيء. إنّه صراع بين المالك والمملوك، ودعوة الله للإنسان أنّ يكون هو المالك بشعور حقيقيّ أنّ الملك الواقعيّ هو لله وحده 1.
1-كتاب السير والسلوك/ الشيخ أكرم بركات.
2013-05-20