خلاصة الميزان في كلام الإمام الخمينيّ قدس سره
السير والسلوك
البدء بالسير والسلوك لا بدّ أنّ يكون بظاهر الشريعة، والاستمرار بالسير والسلوك لا يكون إلّا بظاهر الشريعة والتأكيد على أنّ الميزان هو ظاهر الشريعة..
عدد الزوار: 234
البدء بالسير والسلوك لا بدّ أنّ يكون بظاهر الشريعة، والاستمرار بالسير والسلوك لا يكون إلّا بظاهر الشريعة والتأكيد على أنّ الميزان هو ظاهر الشريعة كان في قبال من ادعى أنّ المطلوب هو الوصول إلى الحقيقة بأيّ وسيلة كانت، ومع الوصول إلى هذه الحقيقة لا يعود هناك أهميّة للالتزام بالأحكام الشرعيّة، فتسقط هذه التكاليف الظاهريّة ليعيش الإنسان السالك في دائرة الحقيقة التي وصل إليها.
إنّ الإمام الخمينيّ يؤكِّد أنّ هذا انحراف في السير والسلوك، فالالتزام بظاهر الشريعة هو الوسيلة في بدء السير والسلوك، وهو الوسيلة الدائمة والباقية فيهما.
تطبيقات على ضوء الميزان
بعد أنّ عرفنا ميزان السير والسلوك وتزكية النفس وأنّه ظاهر الشريعة، يمكن لنا الاستفادة من هذا الميزان للحكم على حالات يمارسها البعض باسم السير والسلوك، ونعرض فيما يلي أمثلة من تلك الحالات.
الحالة الأولى
يدَّعي البعض أنّ السير والسلوك لأجل الوصول إلى الحقيقة يبدأ بالتوبة، وبما أنّ التوبة تكون ـ عادة ـ من ارتكاب المحرَّم، فإنّ هذا يبرِّر ارتكاب السالك ما حرَّمه الله تعالى في بداية سيره، وبعده يتوب إلى الله تعالى فيحصِّل أوّل خطوة في سيره وسلوكه ليكمّله في الخطوات اللّاحقة، وهذا الاتّجاه هو الذي أشار إلى بطلانه الإمام الخمينيّ في الحديث السابق حيث ذكر أنّه لا يمكن طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهيّة بهذه الوسيلة المخالفة للشريعة الحنيفة.
وهذا الاتّجاه المنحرف عن جادّة الحقّ والصّواب كان في المجتمعات السابقة على الإسلام المحمّديّ، كما يظهر ذلك من خلال القصّة التي وردت على لسان الإمام جعفر الصّادق عليه السلام والتي يقول فيه: "كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمر الدنيا شيئاً، فنخر إبليس نخرة فاجتمع جنوده، فقال: من لي بفلان بن فلان؟ فقال بعضهم: أنا له، قال: من أين تأتيه؟ قال: من ناحية النساء، قال: لست له، لم يجرّب النساء، قال آخر: فأنا له من ناحية الشراب واللّذّات؛ قال: لست له، قال آخر: فأنا له من ناحية البِرّ، قال انطلق فأنت صاحبه. فانطلق إلى موضع الرجل فأقام حذاه يصلّي، قال: وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام، ويستريح والشيطان لا يستريح، فتحوّل إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه، واستصغر عمله فقال: يا عبد الله بأيّ شيء قويت على هذه الصّلاة؟ فلم يجبه.
ثمّ أعاد عليه، فقال: يا عبد الله إنّي أذنبت ذنباً وأنا تائب منه، فإذا ذكرت الذنب قويت على الصّلاة؛ قال: فأخبرني عن ذنبك حتّى أعمله فأتوب، فإذا فعلته قويت على الصّلاة قال: ادخل المدينة وسل عن فلانة البغيّة فأعطها درهمين، ونل منها، قال: ومن أين لي درهمان؟ ما أدري ما الدرهمان. فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين، فناوله إيّاهما قال: فقدم المدينة بجلابيبه فسأل عن منزل فلانة البغيّة، فأرشده الناس، وظنّوا أنّه جاء يعظها، فأرشدوه، فجاء إليها بالدرهمين؛ فقال: قومي، فقامت ودخلت منزلها، وقالت: ادخل، وقالت: إنك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها، فأخبِرنْي بخبرك، فأخبرها، فقالت له: يا عبد الله إنّ ترك الذنب أهون عليك من طلب التوبة، وليس كلّ من طلب التوبة وجدها. وإنّما ينبغي أنّ يكون هذا شيطاناً مثّل لك، فانصرف. وماتت من ليلتها، فأصبحت فإذا على بابها مكتوب حضّروا فلانة؛ فإنّها من أهل الجنّة.
فارتاب الناس ومكثوا ثلاثاً لا يدفنونها إرتياباً في أمرها. فأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيّ من الأنبياء، ولا أعلمه إلّا موسى بن عمران إنّه إئت (فلانة) فصلِّ عليها؛ ومُرِ الناس أنّ يصلّوا عليها فإنّي قد غفرت لها، وأوجبت لها الجنّة بتثبيتها فلاناً عبدي من معصيتي.
ولعلَّ من أبشع الانحرافات المُدخَلة في ما سمِّي بالسير والسلوك هو ما سمعته عن بعض الجهلة من عوامّ الناس المدَّعين، ولم اقرأه في كتاب، وهو أنّ التكامل في السير والسلوك وبلوغ المقامات العظيمة يكون بمخالفة التكليف الصادر عن الولي الإمام.
ويستشهدون بهذه المقولة الشيطانيّة بشواهد تنمُّ بوضوح عن عدم فهمهم لأبسط مقدِّمات فهم اللّغة، فضلاً عن أصول الفهم وقواعده. ومن تلك الشواهد، أنّ الإمام الحسين طلب من أصحابه ليلة العاشر من محرّم أنّ يغادروا ساحة كربلاء بقوله: "إنّ هذا اللّيل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرَّقوا في سوادكم ومدائنكم"
فالإمام الحسين حسب دعواهم كلَّف أصحابه بالمغادرة، لكنَّهم عصوه ورفضوا الذهاب، ولأنَّهم عصوا هذا التكليف للإمام من دافع حبِّهم له فإنّهم وصلوا إلى مرحلة الشهادة.
وليت شعري هل يعلم هؤلاء أنّ صيغة الأمر في لغة العرب استعملت في معانٍ كثيرة أنهاها بعض المحقّقين إلى خمسة وعشرين معنى، منها التهديد، كقوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾.
ومنها التعجيز كقوله تعالى: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه﴾ِ.
ومنها الانذار، كقوله تعالى: ﴿تَمْتَعُواْ....﴾
ومنها الإباحة، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ﴾.
ومنها الاعتبار، كقوله تعالى: ﴿انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر﴾َ.
ومنها الإهانة، كقوله تعالى: ﴿كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا﴾.
إلى غيرها من المعاني التي تستخدم فيها صيغة الأمر.
فالعجيب كيف يُستدلّ بقول الإمام الحسين ـ روحي فداه ـ "فاتّخذوه جملاً" والذي أراد به أنّ يختبر أصحابه في تلك اللّيلة العظيمة أنّه يدلّ على التكليف والوجوب، وهم ـ والعياذ بالله ـ قد عصوا تكليف إمامهم!
إنّي لا أجد خلفيّة لما نقلته إلّا تحريكاً شيطانيّاً بعنوان مقدَّس هو حُبّ أهل البيت والذين لا شكّ أنَّهم براء من أولئك المنحرفين.
الحالة الثانية
طرح بعض المنتسبين إلى مدارس السير والسلوك طريقاً لتركيز قلبه وتعلّقه بالله تعالى، وخلاصة هذه الطريق هي أنّ يركّز انتباهه إلى أحد المحسوسات، مثل حجر أو جسم آخر، فينظر إليه بالعين الظاهرة مدّة، ولا يطبق عينه مهما أمكن، وينتبه بجميع القوى الظاهريّة والباطنيّة إليه، ويستمرّ على هذه الحال مدة، والأفضل أربعون أو أكثر. وتجرّأ بعضهم، في بيان هذا الاتّجاه بتمثيل آخر هو أنّ يركّز السالك نظره على شحمة أذن فاتنة جميلة، أو محيّا شيخ مرشد بنفس الحجّة السابقة التي هي أنّ اللّبّ، حينما يحصر تعلّقه بشيء واحد، يستطيع أنّ يقطع علاقاته بالآخرين، ثمّ في مرحلة ثانية، يقطع هذا الارتباط الوحيد ليركِّز قلبه على الله تعالى ليصل إلى المبتغى المنشود.
وفي مقام بيان الحكم على هذا الاتّجاه، في ضوء الميزان المتقدّم، أترك الكلام لسيّد العرفاء والفقهاء الإمام الخمينيّ إذ يقول: "ومن التصرّفات الخبيثة للشيطان، إضلال القلب وإزاغته عن الصّراط المستقيم وتوجيهه نحو فاتنة أو شيخ مرشد. ومن إبداع الشيطان الموسوس في صدور الناس، الفريد من نوعه، هو أنّه مع بيان عذب ومليح، وأعمال مغرية، قد يعلّقُ بعض المشايخ بشحمة أذن فاتنة جميلة ويبرّر هذه المعصية الكبيرة بل هذا الشّرك لدى العرفاء، بأنّ القلب، إذا كان متعلّقاً بشيء واحد، استطاع أنّ يقطع علاقاته بالآخرين بصورة أسرع، فيركّز كلّ توجّهه أوّلاً على الفتاة الجميلة بحجّة أنّ القلب ينصرف عن غيرها وأنّه منتبه إلى شيء واحد ثمّ يقطع هذا الارتباط الوحيد ويركّز قلبه على الحقّ المتعالي. وقد يدفع الشيطان بإنسان أبله نحو إنسان أبله، نحو محيّا مرشد مكّار وحش، بل شيطان قاطع للطريق ويلتجئ في تبرير هذا الشّرك الجليّ إلى أنّ هذا المرشد هو الإنسان الكامل، وأنّه لا سبيل للإنسان في الوصول إلى مقام الغيب المطلق إلّا بوساطة الإنسان الكامل المتجسّد في المرآة الأحديّة للمرشد، ويلتحق كلّ منهما بعالم الجنّ والشياطين. ذاك ـ المرشد ـ بالتفكير في جمال معشوقه ومفاتنه إلى نهاية عمره، وهذا ـ الإنسان البسيط ـ بالانتباه الدائم إلى محيّا مرشده المنكوس حتّى آخر حياته. فلا تنسلخ العلقة الحيوانيّة عن المرشد، ولا يبلغ الإنسان الأبله الأعمى منشوده ومبتغاه".
الحالة الثالثة
اعتقد البعض أنّ السالك لا يصل طالما لم يسلم من آفات الجاه والرياء، لذا يبرَّر له أنّ يفعل المحرَّمات النافرة بشكل علنيّ ليسقط من أعين الناس، وبالتالي ينجو من الجاه والرياء فيصنع كما فعل ذلك السالك الذي روى قصته الغزالي، فقد سرق ثياباً في الحمّام العامّ وهرب ليلحقه الناس، ويقولوا عنه "سارق الحمَّام"، وهكذا حصل، فاعتقد أنّه وصل إلى النتيجة المطلوبة، فسكنت نفسه.ومن الواضح أنّ هذا الطريق محرَّم؛ إذ لم يفوِّض الله للإنسان أنّ يذلَّ نفسه، فضلاً عن حرمة السرقة الواضحة.
الحالة الرابعة
حاول بعضهم أنّ يتخلّى عن حُبّ المال، فباع جميع ممتلكاته، لكنّه فكَّر أنّه إن فرَّقه بين الناس قد يحصل عنده الرّياء، لذا سلك طريقاً آخر وهو أنّه رمى ماله في البحر.
ومن الواضح أنّ هذا الطريق حرام؛ لأنّ رمي المال في البحر هو تبذير، وهو من المحرَّمات الكبائر.
الحالة الخامسة
سلك بعضهم في سيره وسلوكه اتجاهاً فيه تعذيب شديد للجسد ليجعله طيِّعاً على العبادة، وفي هذا الإطار، يُروى عن بعض الشيوخ أنّه ألزم نفسه بالقيام على رأسه طوال اللّيل؛ لتسمح نفسه بالقيام عن طوع. وحالة هذا كمن يحرق جسده حرقاً خطيراً ليتذكّر بذلك جهنّم.
ومن الواضح أنّ تعذيب الجسد الذي يصل إلى حدٍّ كبير وخطير على الإنسان أنّه من المحرّمات الشرعيّة.
الحالة السادسة
ما اشتهر عن بعض الصوفيّة وعن مجالسهم التي فيها الرقص والسماع ليحصلوا فيها على ما يُسمَّى بالحال أو الوَجْد، حتّى نقل عن الشيخ أبي سعيد أبي الخير أنّه كان ذات يوم في ضيافة محمّد القائيني، وانشغل هو وجماعته بالسّماع، والوجد، والرقص، والصّياح، وإذا بصاحب البيت أبلغهم حضور وقت الصّلاة، فأجاب الشيخ: نحن في الصّلاة، فبقوا مستمرّين في رقصهم وسماعهم، فتركهم صاحب البيت وانصرف إلى الصّلاة.
ومن الواضح أنّ هذا خلاف الشريعة المطهّرة التي دعت إلى الصّلاة في أوّل وقتها معتبرة أنّها العمل الأوّل الذي يوصل إلى الفلاح.
الحالة السابعة
ما يفعله البعض من ارتكاب محرَّمات واضحة باعتبار أنّ حرمتها تسقط وترتفع بالنسبة للواصل إلى مرحلة معيّنة من السلوك، كخلع المرأة حجابها أمام رجل أجنبيّ بحجّة أنّهما وصلا إلى مرحلة عالية في سيرهما وسلوكهما، وعليه سقطت التكاليف الظاهريّة عنهما.
فهذا انحراف واضح وأنّها شيطنة متلبّسة بلُبوس دينيّ.
الحالة الثامنة
يبرِّر البعض للسالك أنّ يترك الفريضة الإلهيّة المهمّة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال أدَّيا إلى غضب السالك وتكدّر فكره وانكسّار صفاء ذهنه، وهذا ما نلاحظه من خلال النصّ التالي، وهو موجَّه من أحد "السالكين": "حوِّل النجاسة إلى غيرك لا إلى نفسك، فلو رأيت، مثلاً، أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدّيان إلى حالة الغضب، وتكدّر الفكر، وانكسّار الذهن - وهذا أضرّ عليك ممّا يوجبه ارتكاب الجرم والحرام من الضّرر على ذاك الفاعل - فاتركه على حاله واحتفظ أنت بصفاء نفسك".
ومن الواضح أنّ هذا خلاف الشريعة التي أمرت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ميزان موهوم: خوارق العادات
يظنّ بعض الناس أنّ حدوث ما يُظَنّ أنّه خرق للعادات من أعمال بعض "السالكين" هو دليل على أنّ سيرهم هو حقّ وأنّه يوصل إلى الحقيقة، لذا ترى البعض يستدلّ على صلاح الآخر وأنّه أهل ليكون المرشد والمربّي في السير والسلوك بما سمعه منه من قراءته لخواطر الآخرين وما يفكّرون به، أو بأمر مغيَّب كحصول أمر في منطقة ما، في زمان ما، ثمّ يحصل ما أخبر به، أو يستدلّ على صلاحه وأهليته للتربية والرشاد بما يراه منه من عبور على النار ونحو ذلك، وكثير من الناس حينما يسمعون، بمثل ما مرَّ أو يرونه فإنّهم ينبهرون، ممّا يولِّد فيهم خضوعاً لذلك الإنسان، واستعداداً لإطاعته التامّة فيما أمر مهما كان أمره!!1.
1-كتاب السير والسلوك/ الشيخ أكرم بركات.
2013-05-20