الآداب القلبية لمكان المصلي
العلاقة مع الله
ليعلم السالك إلى الله، أن هناك آدابا قلبية للمكان، ما لم يلتزم بها السالك لم يتوصّل إلى صلاة أهل المعرفة. وليعلم أن للمكان مراتب:الأولى مرتبةالطبيعة. الثانية:مرتبة البدن.الثالثة: مرتبة القلب.
عدد الزوار: 102
ليعلم السالك إلى الله، أن هناك آدابا قلبية للمكان، ما لم يلتزم بها السالك لم يتوصّل إلى صلاة أهل المعرفة. وليعلم أن للمكان مراتب:
الأولى: مرتبة الطبيعة (أي الأرض)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"، فعلى السالك إلى الله أن يعلم أن دار الطبيعة هي مسجد عبادة الله تعالى وأنه خلق لأجل هذه الغاية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56)...
الثانية: مرتبة البدن، فعلى السالك أن لا ينجسه بقاذورات تصرف إبليس.
الثالثة: مرتبة القلب، وطهارة مكان القلب من مهمّات السلوك، لأن القلب يفسد بفساده البدن والأرض ويصلحا بصلاحه.
ثم اعلم أن من الآداب القلبية للدخول إلى المسجد، ما قاله الإمام الصادق عليه السلام: "إذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قد قصدت باب ملك عظيم لا يطأ بساطه إلا المطهّرون ولا يؤذن لمجالسته إلا الصدّيقون...".
واعلم أن من آداب إباحة المكان أن تبقي الأرض والبدن والقلب تحت ملكيّة الله فالله هو المالك، فإذا دخل إبليس إليه، فمعنى ذلك أنها تحت سيطرة غير مالكها فهي مغصوبة إذن.
ويروى عن الإمام الصادق عليه السلام: "في آداب الدخول إلى المسجد: "إذا بلغت باب المسجد، فاعلم أنك قصدت ملكا عظيما لا يطأ بساطه إلا المطهرون ولا يؤذن لمجالسته إلا الصديقون، وهب القدوم إلى بساط خدمة الملك هيبة الملك فإنك على خطر عظيم إن غفلت، واعلم أنه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك بفضله ورحمته قبل منك يسير الطاعة وأجزل لك عليها ثواباً كثيراً، وإن طالبك باستحقاقه الصدق والاخلاص عدلاً بك، حجبك وردّ طاعتك وإن كثرت، وهو فعّال لما يريد، واعترف بعجزك وتقصيرك وانكسارك وفقرك بين يديه، فإنك قد توجهت للعبادة له والمؤانسة به وأخل قلبك عن كل شاغل يحجب عن ربك، فإنه لا يقبل إلا الأطهر والأخلص، فإن ذقت حلاوة مناجاته ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجاباته، فقد صلحت لخدمته فادخل فلك الإذن والأمان، وإلا فقف وقوف مضطر قد انقطع عنه الحيل وقصر عنه الأمل وقضى عليه الأجل، فإذا علم الله من قلبك صدق الالتجاء إليه، نظر إليك بعين الرأفة والرحمة واللطف والعطف، ووفقك بما يحب ويرضى فإنه كريم مجيب يحب الكرامة لعباده المضطرين إليه، قال الله تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾(النمل:62)"1.
آداب أوقات الصلاة
إن أهل معرفة الله ليس لهم أوقات مخصوصة لعبادة الله تعالى، بل هم دائما في عبادة، كل الأوقات أوقات عبادة عندهم، فهم ليسوا مهجورين عن الذكر والفكر، ولا يختارون على المناجاة مع الحق شيئاً، ويرون أن العزة والشرف والفضيلة والمعرفة كلها في تذكر الحق ومناجاته، فهم يواظبون على أوقات الصلاة وينتظرونها بشغف وشوق، ولا يرون العبادات الإلهية تكليفاً وكلفة.
فأنت أيها العزيز، بقدر ما يمكنك حافظ على أوقاتها وانتخب أوقات فضيلتها فإن فيها نورا ليس في غيرها من الأوقات، وأقلل فيها من الاشتغالات القلبية بل اقطعه، وهذا يحصل بأن تقسّم وتعيّن للصلاة وقتاً خاصاً لا يكون لك فيه أشغال أخر ولا تكون للقلب تعلّقات أخرى، ولا تجعل الصلاة تزاحم الأمور الأخرى كي تستطيع أن تريح القلب وتحضره.
وإليك بعض الأحاديث التي تشير إلى مدى اهتمام أولياء الله عليهم السلام بأوقات الصلاة.
فعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا ونحدّثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه شغلاً بالله عن كل شيء".
وروي عن علي عليه السلام: "كان إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل ويتلوّن، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول عليه السلام: جاء وقت الصلاة وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها".
ويروى أن الحسين عليه السلام: "إذا توضأ يتغير لونه وتضطرب مفاصله فقيل له في ذلك فقال: حق لمن يقف بين يدي ذي العرش أن يصفّر لونه وتضطرب مفاصله".
ونقل عن الحسن وعلي بن الحسين عليهما السلام مثل ذلك أيضا.
ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه عندما يحين وقت الصلاة كان يقول لبلال الحبشي المؤذن"أرحنا يا بلال" فقد كانت الصلاة قرّة عينه وراحته.
آداب وسر الاستقبال
اعلم أن ظاهر الاستقبال يعني أمرين: أحدهما: صرف الوجه الظاهر عن جميع المشتتات، والآخر: الاستقبال بالوجه إلى الكعبة التي هي النقطة المركزية ومحل ظهور يد الله وقدرته.
وهذان الأمران الظاهران يشيران إلى فطرتين مغروزتين في البشر.
إحداهما: النفور عن النقص والناقص.
والثانية: العشق للكمال والكامل، فإن هاتين الفطرتين موجودة في كلّ البشر إلى أي ملّة أو دين انتموا، وإن كانوا يختلفون في تشخيص الكمال والنقص، والكامل والناقص.
فذاك الوحشي السفّاك الفتاك يرى الكمال في أن يغلب على نفوس الناس وأعراضهم ويرى السفك والقتل كمالاً فيصرف فيه عمره.
وذاك الطالب للدنيا بنسائها وجاهها ومالها يرى الكمال بالنساء والجاه والمال ويعشقها.
والأنبياء والأولياء عليهم السلام عرفوا أن الكمال والكامل الحقيقي، هو الله تعالى الذي هو الكمال بلا نقص، والجمال بلا عيب، ونور النور، والخير المطلق، أرشدوا الناس إلى هذه الحقيقة التي تعرف من خلال إزالة الحجب عن الفطرة.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الاستقبال إلى القبلة يعني أن الفطرة هذه قد تيقظت وخرجت عن الاحتجابات، وهذا الادعاء حقيقي بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء عليهم السلام وأهل المعرفة، أما نحن فعلينا أن نفهم قلوبنا هاتين الفطرتين.
كيف نفهمها ذلك؟ بالتلقين، كرّر في نفسك عند توجهك لاستقبال القبلة، مثلاً "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع هذا الشعر للبيد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هذا الشعر أصدق شعر قاله العرب".
والتفت إلى ما قاله الشاعرالشيرازي: "لا تسع قلوبنا أحدا غير الحبيب فدع الكونين للعدوّ فإن الحبيب يكفينا"، لعلّ فطرتك تستيقظ من نوم الغفلة.
واسمع لما قاله ولي الله الصادق عليه السلام: "إذا استقبلت القبلة فآيس من الدنيا وما فيها والخلق وما هم فيه استفرغ قلبك عن كل شاغل يشغلك عن الله تعالى وعاين بسرّك عظمة الله تعالى واذكر وقوفك بين يديه يوم:﴿تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ﴾(يونس:30) وقف على قدم الخوف والرجاء2".
قصة للعبرة
عن الأصمعي قال: خرجت إلى الحج إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبينما أنا أطوف حول الكعبة، وكانت ليلة مقمرة وإذا بصوت أنين وحنين وبكاء، فتبعت الصوت وإذا بشاب حسن الوجه ظريف الشمايل، وعليه ذوايب وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول:
ياسيدي ومولاي قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حيّ قيوم، إلهي غلقت الملوك أبوابها وقام عليها حجابها، وحراسها، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا ببابك، انظر برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم أنشأ يقول:
يا مــن يجيب المضطر فـي الظلم أدعـــوك ربــي حزيناً دائماً قلقـاً
وكاشف الضّر والبلوى مع السّقم فــارحم بكائي بحق البيت والحــرم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف
وأنـت يا حـــي يا قـيوم لــم تــنم فمن يجـوز على العاصيـن بالنعــم
ثم قال: رفع رأسه إلى السماء وهوينادي: إلهي وسيدي أطعتك بمشيئتك فلك الحجّة عليّ بإظهار حجتك إلا ما رحمتني وعفوت عني ولا تخيبني يا سيدي، ثم قال: إلهي وسيدي الحسنات تسرك والسيئات ما تضرّك، فاغفر لي وتجاوز عني في ما لا يضرك ثم أنشأ يقول:
ألا أيها الـــمأمول فـي كـلّ حاجـــة على الزاد أبكي أم على بعد سفرتي
شكوت إليك الضّر فـــارحم شكايتي أتـــيت بأعـمـــال قبــــاح رديّـــــة
ألا يا رجائــــي أنت كاشف كربـتي فما في الــورى عبد جنى كجنايتـي
فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي اتحرقني بالــنار يا غاية الــمنـــى
فــــــــزادي قليـل لا أراه مبلغـــي فأين رجائي منك وأين مخافـــتي
قال الأصمعي: وكان يكرّر هذه الأبيات حتى سقط مغشياً عليه فدنوت منه لأعرفه فإذا هو زين العابدين بن الحسين بن علي عليه السلام.
قال الأصمعي: فأخذت رأسه ووضعته في حجري وبكيت فقطرت قطرة من دموعي على خدّه ففتح عينيه وقال: من هذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟
قلت يا مولاي عبدك وعبد أجدادك الأصمعي، فما هذا الجزع والفزع والبكاء والأنين، وأنت من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(الاحزاب:33).
قال: فاستوى قاعداً وقال عليه السلام: "هيهات يا أصمعي، إن الله تعالى خلق الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّدا قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ...﴾(المؤمنون:101).
قال الأصمعي: فتركته على حاله يناجي ربّه.
*دروس من الآداب المعنوية للصلاة، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، آذار 2004م، ص51-59.
2- مصباح الشريعة، باب 39 افتتاح الصلاة، ص87. 2009-08-21