الآداب العامة لعبادة الله تعالى (1)
العلاقة مع الله
لقد جعل الله للإنسان سبيلا واضحا لسلوك طريق التكامل فقال تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ..." ولهذا أرسل الأنبياء والسفراء والإلهيون الذين قرّروا إن طريق الكمال هو طريق العبودية لله تعالى، ولا سبيل غير سبيل العبودية.
عدد الزوار: 115
تمهيد
لقد جعل الله للإنسان سبيلا واضحا لسلوك طريق التكامل فقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ...﴾(الأنعام:153) ولهذا أرسل الأنبياء والسفراء والإلهيون الذين قرّروا أن طريق الكمال هو طريق العبودية لله تعالى، ولا سبيل غير سبيل العبودية.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تقرّب إلي عبد بشيء أحب مما افترضت عليه وإنه ليتقرّب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها".
أعمال الإنسان تتجسد في عالم الغيب
كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان في الحياة الدنيا يكون لها صورة في عالم الغيب المسمى بعالم البرزخ وهو العالم الذي تتجسد فيه أعمالنا قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا...﴾(آل عمران:30).
فالآية الشريفة تدل على أن كلّ أحد يرى أعماله خيرها وشرّها حاضراً، ويشاهد صورتها الباطنية الغيبية.
وقد جاء في الحديث: "إن العمل الصالح ليذهب إلى الجنة فيمهد لصاحبه كما يبعث الرجل غلاما فيفرش له ثمّ قرأ عليه الصلاة والسلام وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلأنفسهم يمهدون".
الصورة الغيبية للصلاة
من أهم العبادات التي ينبغي أن يهتم بها الإنسان والتي تكون سببا لإصلاح آخرته وصورته الغيبية هي الصلاة فإن الصلاة عمود الدين وبصلاح صلاة العبد تصلح مملكة وجود الإنسان.
قال تعالى: ﴿... إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ...﴾(العنكبوت:45).
ما هي صورة الصلاة وحقيقتها
عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "من صلّى الصلوات المفروضات في أول وقتها وأقام حدودها رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقية تقول حفظك الله كما حفظتني استودعتني ملكا كريما. ومن صلاّها بعد وقتها من غير علّة ولم يقم حدودها رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف به ضيّعك الله كما ضيّعتني، ولا رعاك الله كما لم ترعني".
فإن هذه الرواية تدل على أن ملائكة الله سبحانه ترفع الصلاة إلى السماء إمّا بصورة نقيّة بيضاء، وهي ما إذا أتى بها المصلّي في أول وقتها ولاحظ آدابها فتدعو له بدعاء الخير، وإما بصورة سوداء مظلمة وذلك إذا أخرّها من غير عذر عن وقتها ولم يقم حدودها، فتدعو حينئذ على المصلّي.
آداب الصلاة
بعد هذه المقدّمة يتضح أن الصلاة لها حقيقة ستظهر في العوالم الأخرى التي سيمر بها الإنسان حتما.
ولكن حتى يتمكن الإنسان من إصلاحه صورة صلاته ورفعها إلى الله تعالى بيضاء نقية وتحقق له مرقاة الوصول إلى جوار المحبوب سبحانه وتعالى لا بد له من مراعاة الشروط والآداب الخاصة بالصلاة.
وهذه الآداب تنقسم إلى قسمين
1- الآداب الظاهرية: والتي منها النظافة وتحسين الثياب والابتعاد عن الضجيج وتخصيص مكان للصلاة وسجادة خاصة والتختم والتعطر وغيرها.
2- الآداب الباطنية: وهي تنقسم إلى قسمين أيضاً آداب عامة تشمل جميع العبادات وأهمها الصلاة، وآداب خاصة بالصلاة.
الآداب العامة
هناك آداب عامة من الضروري أن تتوفّر في الصلاة بل في جميع العبادات، إذا لم تتوفر هذه الآداب في نفس وروح العابد فإن عباداته لن تنفع، بل تكون صورة بلا لبّ، وتمثال بلا حقيقة، وجسد بلا روح، وحركات بلا معنى.
وقبل الخوض في آداب الصلاة وأسرارها الخاصة، لا بد من معرفة هذه الآداب العامة ومنها:
• التوجّه إلى عز الربوبية وذلّ العبودية
بمعنى أن يدرك الإنسان عظمة الله وكبريائه وجبروته، وفي ونفس الوقت أن يدرك ذلّته وفقره وحاجته ومسكنته أمام عزة الله وغناه، هذا الادراك هو من الآداب القلبية في العبادات، وهو من الأمور المهمّة لكي يستطيع الإنسان التقرّب من الله ومعرفته.
بل كمال الإنسان ونقصه من حيث إنسانيته مرتبط وتابع لهذا الادراك، فكلما كان الإنسان محبّا لنفسه أنانيّا، لا يرى أكثر من أفق نفسه، مستغرقا في حبّ ذاته وعشقه، كان بعيدا عن كمال الإنسانية وبالتالي بعيداً عن معرفة الله وحبّه وعشقه.
وحب النفس ورؤيتها هو أكبر وأضخم الحجب وأظلمه، إذا لم يخرج الإنسان منه لا يستطيع أو من الصعوبة أن يخرج من الحجب الأخرى التي تحجب الإنسان عن معرفة الله تعالى.
فالانتصار على هذا الحجاب هو مقدّمة للانتصار على الحجب الأخرى، فهو أول الطريق وأول شرط للسلوك إلى الله تعالى.
فجهاد النفس ورياضتها لا تنجح ولا تؤتي أكلها إذا لم يعرف نفسه ويقدّرها التقدير الواقعي أمام ربّ العالمين الغني الذي يتصف بكل الصفات الكمالية.
• أهمية التوجه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد في العبودية وجد في الربوبية، وما خفي من الربوبية أصيب في العبودية". فمن سعى بخطوة العبودية وأدرك ذلّة النفس وفقرها وصل إلى عزّ الربوبية.
فإذا ترك العبد التصرفات من عنده وسلّم حكومة وجوده كلها إلى الحق وخلّى بين البيت وصاحبه فحينئذ يكون المتصرف في الدّار صاحبها فتصير تصرفات العبد إلهيّة، فيكون بصره بصراً إلهياً وينظر نظرة إلهية، ويكون سمعه إلهيّا فيسمع بسمع الحق تعالى.
وهذا ما يشير إليه الحديث المشهور:"… وإنه (أي العبد) ليتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته"1.
وكلّما كانت النفس مرتفعة متكبّرة، كلّما كان الشعور بعزّ الله وغناه ناقصا بل في بعض المراتب زائلا. كما كان تكبّر فرعون"أنا ربّكم الأعلى"فإن الشعور بعزّ الله من مثل فرعون مستحيل.
وفي مقامنا كلّما قوي في النفس ذل العبودية وعزّ الربوبية زادت الروحانية في العبادة - الصلاة وغيرها- وأدرك الإنسان حقيقة العبودية وسرّ العبادة، فعلى الإنسان الذي يريد الوصول إلى الله تعالى ومعرفته أن يهاجر من بيت النفس إلى الله ورسوله ويسلّم كيانه إلى الله تعالى، بذلك يكون قد خطى الخطوة الأولى في روحانيّة العبادة.
• من مراتب العبودية
يقول الإمام الصادق عليه السلام:"الإيمان درجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه ومنه الناقص البيّن نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحاته".
وقال الباقر عليه السلام:"إن المؤمنين على منازل، منهم على واحدة ومنهم على اثنتين ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على ست ومنهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقو، وعلى صاحب الاثنتين ثلاثا لم يقو"، وساق الحديث ثم قال:"وعلى هذه الدرجات".
هذان الحديثان وغيرهما يشيران إلى مراتب في الإيمان، وكما أن هناك مراتب في الإيمان، كذلك هناك مراتب في مقامنا أي مقام الشعور بذلّ العبودية وعزّ الربوبية.
1- مرتبة العلم: وهي أن يثبت بالسلوك العلمي والبرهان الفلسفي ذلة العبودية وعزة الربوبية. فمما لا شك فيه أن كلّ ما خلا الله هو فقير ومحتاج، وهو وحده تعالى العزيز الغني.
2- مرتبة الإيمان القلبي: هذه المرتبة تعني أن كل ما أدركه العقل بالبرهان الفلسفي والعلمي ينزل إلى القلب، فلا يكفي العلم المجرّد دون رسوخه في القلب.
3- مرتبة الإطمئنان: وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان، قال تعالى: ﴿... أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...﴾(البقرة:260).
4- مرتبة المشاهدة: وهو نور إلهي رحماني... ولهذه المرتبة درجات، تخرج عن دائرة الوصف.
• الخشوع
من الآداب العامة في الصلاة وغيرها من العبادات الخشوع، وهو يعني: الخضوع التام للحق تعالى الممزوج بالحب له أو الخوف منه جلا وعلا.
أما لماذا تارة يكون الخضوع ممزوجا بالحب وأخرى بالخوف؟ فلأن بعض القلوب السالكة إلى الله تعالى بحسب الفطرة مختلفة فمنها عشقي متوجهّة إلى جمال المحبوب، فأصحاب هذه القلوب تغشاهم هيبة الجمال وعظمته ويأخذهم الخشوع في حيال جمال المحبوب.
ولكن هذه الحالة في أوائل الأمر توجب تزلزل القلب واضطرابه، بعد التمكّن تحصل للسالك حالة الأنس، وتتبدّل حالة الوحشة والاضطراب المتولدة من العظمة إلى الأنس والسكينة، وتجيئه حالة الطمأنينة، هذا في جهة الحب، ومن جهة الخوف فهناك بعض القلوب خوفيّ، وخشوع أصحاب هذه القلوب يكون من الخوف من الله تعالى.
يقول تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(المؤمنون:1-2).
• بين العلم والإيمان
تحصيل الخشوع يكون من طريق العلم والإيمان، وهناك فرق بين العلم والإيمان. والدليل على ذلك أن الشيطان- كما يشهد له الله تعالى عالم بالمبدأ والمعاد ومع ذلك فهو كافر، لأنه يقول:﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾(الأعراف:12) فهو إذا يعترف بالحق تعالى وخالقيته، ويقول أيضا:﴿فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(الأعراف:14) فيعتقد بالمعاد وهو كذلك عالم بالكتب والرسل والملائكة، ومع ذلك كله خاطبه الله سبحانه بلفظ الكافر.
فإذاً يمتاز أهل العلم من أهل الإيمان. ومجرّد العلم- وإن كان مهمّاً- لا يوجب خشوعاً كما ترونه في أنفسكم فإنكم مع كونكم معتقدين بالمبدأ والمعاد، ومع اعتقادكم بعظمة الله وجلاله وجماله ليست قلوبكم خاشعة.
• توصيات لتحصيل الخشوع
أ- على السالك أن يحصّل الخشوع بنور العلم- كخطوة أولى- والإيمان، وأن يمكّن هذه الحالة في جميع صلاته من أولها إلى آخرها.
ب- تمكين الخشوع في أول الأمر قد يكون صعبا ولكن مع الممارسة والارتياض القلبي أمر ممكن جداً، فلا تيأس في هذا الطريق.
ج- تحصيل الخشوع لا يكون بالفتور بل يحتاج إلى جد، وكلّما كان المطلوب أعظم- وهو القرب من الله- فهو أحرى بالجد.
د- قد يتضايق الإنسان في بداية الطريق من سعيه إلى الصلاة وأمتلاك حالة الخشوع، إلا أنه على المدّة يحصل له الأنس بها واللذة التي لا تقاس بها لذات هذه الدّنيا.
فإذا واظبت عليها مدّة يسيرة، وحصل لقلبك الأنس بها لتجدّن في هذا العالم من المناجاة مع الحق تعالى لذّات لا يقاس بها لذّة من لذّات هذا العالم كما يظهر ذلك من النظر إلى أحوال أهل المناجاة مع الله سبحانه.
هـ - على السالك أن يذكر القلب على الدوام بعظمة الله وجلاله حتى يدخل الخشوع شيئا فشيئا إلى قلبه.
و- على السالك أن لا يقنع بما وصل إليه بل عليه أن يطلب المزيد ويعتبر نفسه ناقصا.
*دروس من الآداب المعنوية للصلاة، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، آذار 2004م، ص7-16.