سنّة البشارة على مدى العصور
رحيل الرسول الأكرم(ص)
لقد صرّح القرآن الكريم بأن العهد التاريخي للبشرية قد بدأ بظاهرة وجود النبوّات وبعث الأنبياء وإرسال الرسل. الذين مضوا يقودون مجتمعاتهم نحو حياة أفضل ووجود إنساني أكمل, مما يمكن أن نستنتج منه أنّ إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات البشريّة
عدد الزوار: 267
لقد صرّح القرآن الكريم
بأن العهد التاريخي للبشرية قد بدأ بظاهرة وجود النبوّات وبعث الأنبياء وإرسال
الرسل. الذين مضوا يقودون مجتمعاتهم نحو حياة أفضل ووجود إنساني أكمل, مما يمكن أن
نستنتج منه أنّ إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات البشريّة يعتبر بداية
العصر التاريخي للبشرية.
قال تعالى: ﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن
بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ
آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن
يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
لقد قضت حكمة الله ورحمته بإرسال الأنبياء حاملين إلى الإنسانية منهاج هدايتها الذي
يخرجها من عهد الغريزة إلى عهد العقل، ومن منطق الصراع الذي مرجعه الغريزة والقوّة
إلى منطق النظام ومرجعه القانون. وخرج المجتمع البشري بالنبوّات عن كونه تكويناً
حيوانياً ـ بيولوجيّاً إلى كونه ظاهرة عقلية روحية وحققت النبوّات للإنسان مشروع
وحدة أرقى من وحدته الدموية البيولوجية... وهي الوحدة القائمة على أساس المعتقد،
وبذلك تطوّرت العلاقات الإنسانية مرتفعة من علاقات المادة إلى علاقات المعاني.
والاختلافات التي نشأت في النوع الإنساني بعد إشراق عهد النبوّات غدت اختلافات في
المعنى، واختلافات في الدين والمعتقد, فإن أسباب الصراع لم تُلغ بالدين الذي جاءت
به النبوّات بل استمرّت وتنوّعت، ولكن المرجع لم يعد الغريزة بل غدا القانون مرجعاً
في هذا المضمار. والقانون الذي يتضمنه الدين يكون قاعدة ثابتة لوحدة الإنسانية
وتعاونها وتكاملها.
وأوضح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الخطبة الأُولى من نهج البلاغة ـ بعد
أن استعرض تاريخ خلق العالم وتاريخ خلق آدم عليه السلام وإسكانه في الأرض ـ أن
إشراق النبوّة وتسلسلها على مدى العصور هو المحور في تاريخ الإنسان وحركته نحو
الكمال كما صرّح به القرآن الكريم موضحاً منهجه في التعامل مع التاريخ.
قال عليه السلام: (... واصطفى سُبحانه من ولد (آدم) أنبياء، أخذ على الوحي ميثاقهم,
وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم, فجهلوا حقّه،
واتّخذوا الأنداد معه, واجتالتهم الشياطين عن معرفته, واقتطعتهم عن عبادته..
فبعث فيهم رُسُله, وواتر إليهم أنبياءه, ليستأدُوهم ميثاق فطرته, ويذكّروهم مَنسيَّ
نعمته، ويحْتجّوا عليهم بالتّبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويُروهم آيات كأن
الله تعالى بما أودع في الإنسان من الغرائز والقوى، وبما أقام له من الشواهد وأدلة
الهدى، قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أوتي من ذلك فيما خلق له، وقد كان يعمل على
ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات، فبعث النبيين ليطلبوا من
الناس أداء ذلك الميثاق.
دفائن العقول: أنوار العرفان التي تكشف للإنسان أسرار الكائنات, وترتفع به إلى
الإيقان بصانع المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع, ومعايش تُحْييهم،
وآجال تُفنيهم، وأوصاب تُهرمهم, وأحداث تتابع عليهم.
ولم يُخْل الله سبحانه خلقه من نبيٍّ مرسل, أو كتاب مُنْزل, أو حجّة لازمة، أو
محجّة قائمة.
رُسلٌ لا تقصِّرُ بهم قلّة عددهم، ولا كثرة المكذّبين لهم: من سابق سُمّي له من
بعده، أو غابر عرّفه من قبله.
على ذلك نسلت القرون, ومضت الدهور, وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء.
إلى أن بعث الله سبحانه مُحمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لإنجاز عدته,
وإتمام نبوّته.
مأخوذاً على النبيّين ميثاقه، مشهورة سماته, كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ مللٌ
متفرّقة وأهواءٌ منتشرة، وطوائف متشتِّتة، بين مشبِّه لله بخلقه، أو مُلحد في اسمه،
أو مشير إلى غيره.
فهداهم به من الضّلالة, وأنقذهم بمكانه من الجهالة.
ثم اختار سبحانه لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم لقاءَهُ، ورضي له ما عنده, وأكرمه
عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً صلى الله عليه وآله
وسلم, وخلَّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها إذْ لم يتْرُكوهم هملاً بغير طريق
واضح، ولا علم قائم.
إنّ بشائر الأنبياء السابقين بنبوّة الأنبياء اللاحقين تنفع الأجيال المعاصرة لهم
وكذا الأجيال اللاحقة, إذ تفتح عيونهم وتجعلهم على أهبة الاستقبال للنبيّ المبشَّر
بنبّوته، كما أنّها تزيل عنهم الريب وتعطيهم مزيداً من الثقة والاطمئنان.
على أن اليأس من الإصلاح إذا ملأ القلب يجعل الإنسان يفكر بطرق أبواب الشّر
والخيانة، فالبشائر بمجي الأنبياء المصلحين تزيل اليأس من النفوس التي تنتظر
الإصلاح وتوجّهها إلى حبّ الحياة وقرع أبواب الخير.
وتزيد البشائر إيمان المؤمنين بنبوّة نبيّهم، وتجعل الكافرين في شكٍّ من كفرهم،
فيضعف صمودهم أمام دعوة النبي إلى الحقّ ممّا يمهّد لقبولهم الدعوة.
وإذا أدّت البشارة إلى حصول الثقة فقد لا تُطلب المعجزة من النبيّ، كما تكون
النبوّة المحفوفة بالبشارة أنفذ إلى القلوب وأقرب إلى الإذعان بها. على أنّها تبعّد
الناس عن وطأة المفاجأة أمام واقع غير منتظر، وتخرج دعوة النبيّ عن الغرابة في نفوس
الناس.
على أن الأنبياء جميعاً يشكّلون خطاً واحداً، فالسابق يبشّر باللاحق، واللاحق يؤمن
بالسابق. وقد تكفّلت الآية (81) من سورة آل عمران بالتصريح بسنّة البشائر هذه.
بشارات الأنبياء برسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم
1 ـ لقد نصّ القرآن الكريم على بشارة إبراهيم الخليل عليه السلام برسالة خاتم
النبيين صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب الدعاء قائلاً ـ بعد الكلام عن بيت الله
الحرام في مكة المكرّمة ورفع القواعد من البيت والدعاء بقبول عمله وعمل إسماعيل
عليه السلام وطلب تحقيق اُمة مسلمة من ذريتهما ـ: ﴿رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
2 ـ وصرّح القرآن الكريم بأنّ البشارة بنبوّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمي
كانت موجودة في العهدين القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل). والعهدان كانا في عصر
نزول القرآن الكريم وظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم تكن البشارة موجودة
فيهما لجاهر بتكذيبها أصحاب العهدين.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ...﴾.
3 ـ وصرّحت الآية السادسة من سورة الصف بأن عيسى عليه السلام صدَّقَ التوراة بصراحة
وبشّر برسالة نبيّ من بعده اسمه أحمد. وقد خاطب عيسىعليه السلام بني إسرائيل جميعاً
لا الحواريين فحسب.أهل الكتاب ينتظرون خاتم النبييّن صلى الله عليه وآله وسلم لم
يكتف الأنبياء السابقون بذكر الأوصاف العامة للنبيّ المبشَّر به، بل ذكروا أيضاً
العلائم التي يستطيع المبَشَّرون من خلالها معرفته بشكل دقيق، مثل: محل ولادته،
ومحل هجرته وخصائص زمن بعثته، وعلائم جسمية خاصة وخصائص يتفردّ بها في سلوكه
وشريعته.. ولهذا قال القرآن عن بني إسرائيل بأنهم كانوا يعرفون رسول الإسلام
المبشَّر به في العهدين كما يعرفون أبناءَهم.
بل رتبوا على ذلك آثاراً عملية فاكتشفوا محل هجرته ودولته فاستقروا فيها وأخذوا
يستفتحون برسالته على الذين كفروا ويستنصرون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على الأوس والخزرج وتسرّبت هذه الأخبار إلى غيرهم عن طريق رهبانهم وعلمائهم فانتشرت
في المدينة وتسرّبت إلى مكة.
وذهب وفد من قريش بعد إعلان الرسالة إلى اليهود في المدينة للتَثبّت من صحة دعوى
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم النبوّة وحصلوا على معلومات اختبروا بها النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم واتضح لهم من خلالها صدق دعواه.
وقد آمن جمع من أهل الكتاب وغيرهم بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم على أساس
هذه العلائم التي عرفوها من دون أن يطلبوا منه معجزة خاصة، وهذه البشائر تحتفظ بها
لحد الآن بعض نسخ التوراة والإنجيل.
وهكذا تسلسلت البشائر بنبوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل
ولادته،وخلال فترة حياته قبل بعثته، وقد عرف واشتهر منها إخبار بحيرا الراهب وغيره
إبّان البعثة المباركة.
وقد شهد علي أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الحقيقة التأريخية حين قال في إحدى
خطبه: (... إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لإنجاز عِدَتِه وإتمام نبوّتِه، مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورةً سِماتُه..).
وقد جاء في طبقات ابن سعد عن سهل مولى عتيبة انه كان نصرانياً من أهل حريس، وانه
كان يتيماً في حجر أمه وعمّه وأنه كان يقرأ الإنجيل، قال: (...فأخذت مصحفاً لعمي
فقرأته حتّى مرّت بي ورقة فأنكرت كتابتها حين مرّت بي ومسستها بيدي، قال: فنظرت,
فإذا فصول الورقة ملصق بغراء, قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمّد صلى الله عليه
وآله وسلم: انه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم يكثر الاحتباء
ولا يقبل الصدقة ويركب الحمار والبعير ويحتلب الشاة ويلبس قميصاً مرقوعاً، ومن فعل
ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرّية إسماعيل، اسمه أحمد. قال سهل:
فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء عمّي فلّما رأى
الورقة ضربني وقال: مالك وفتح هذه الورقة وقراءتها؟! فقلت: فيها نعت النبيّ أحمد،
فقال: إنّه لم يأتِ بَعدُ.
* موسوعة أعلام الهداية / سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.