يتم التحميل...

المعرفة بحقيقة الدنيا تقرِّب من الله

العلاقة مع الله

مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ، لِلدُّنْيَا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً، إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الْأََسْقَامِ رَهِينَةِ الْأَيَّامِ، وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُور،ِ وَغَرِيمِ الْمَنَايَا، وَأَسِيرِ الْمَوْتِ...

عدد الزوار: 84

مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ، لِلدُّنْيَا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً، إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الْأََسْقَامِ رَهِينَةِ الْأَيَّامِ، وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُور،ِ وَغَرِيمِ الْمَنَايَا، وَأَسِيرِ الْمَوْتِ، وَحَلِيفِ الْهُمُومِ، قَرِينِ الْأَحْزَانِ، وَنُصْبِ الْآفَاتِ، وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ.

تمهيد

عندما أراد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يشرع بالوصية لابنه الإمام الحسن عليه السلام، كان من الطبيعي أن يبدأ بتعريف هذه الدنيا التي تمثل الساحة التي يعيش فيها الإنسان، ما هي ظروف هذه الساحة ومخاطرها وعلاقة الإنسان بها؟ فإن الإنسان إذا عرف هذه الساحة وطبيعتها ومقدار علاقته بها، فإن ذلك كله سيحدد له السلوك والمسار في هذه الدنيا، وهذا في الحقيقة تأسيس لكل ما يأتي بعد ذلك في الوصية.

وفي شرح الإمام عليه السلام لهذه الدنيا وطبيعتها وعلاقة الإنسان بها أشار إلى جوانب متعددة نشرحها فيما يلي:

أولاً: مخاطر الحياة

إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يواجه العديد من التحديات التي تواجهه، وهي تحديات متعددة ومتنوعة، ومعرفتها بداية الطريق لتجهيز النفس لمواجهتها، فمن هذه الأمور التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام :


رهينة الأيام
الرهينة هو الأسير، فالإنسان أسير لهذه الأيام، تتحكم به وبمصيره، فكما أن الأسير لا يعلم ما يكون مصيره، بل أمره بيد آسره، فكذلك حال الإنسان في هذه الدنيا، هو أسير لما يمرّ عليه من الأيام.


غرض الأسقام
الإنسان كالهدف لآفات الدنيا وأعراضها، ومن النادر أن يسلم من الإصابة بمرض ما، بل ونحن نعيش اليوم رغم التطور الطبي حالات مرضية جديدة، وأمراضاً لم نكن نسمع بها من قبل.

ولكن لماذا يمرض الإنسان؟ لا شك في وجود عوامل وأسباب طبيعية وتكوينية للمرض، ولكنها ليست السبب الوحيد في مرض الإنسان وموته، ولذا ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام جواباً منه للزنديق الذي سأله عن المرض قال له الإمام: "تزعم أن من أحسن السياسية لبدنه وأجمل النظر في أحوال نفسه وعرف الضار مما يأكل من النافع لم يمرض... قد مات أرسطاطاليس معلم الأطباء، وأفلاطون رئيس الحكماء وجالينوس شاخ ودق بصره، وما دفع الموت حين نزل بساحته".
وفي نفس هذه الرواية يذكر الإمام عليه السلام أن المرض على ثلاثة أنواع: مرض بلوى، ومرض العقوبة، ومرض جعل عليه الفناء1.


نصب الآفات
الآفة هي العاهة والتي يصاب بها الإنسان فتعطل له بعض حواسه ولا يتمكن من العيش كسائر الناس، وكل إنسان هو في معرض الإصابة فيها، فلذا كان الإنسان نصبها أي لا يفارقها.

والآفات هي من الأمور التي يبتلي بها الله عز وجل عباده ليختبرهم فيعرف درجات إيمانهم، ومقدار صبرهم.


رمية المصائب
أما الرمية فهي عبارة عما يرمى، فالمصائب تجعل من هذه الإنسان أداة ترمي بها، والمصائب التي تحل على هذا الإنسان عديدة وكثيرة، تعظم أحياناً وتصغر أخرى، ولكنها جميعها تقذف هذا الإنسان إلى حيث لا يحب ولا يريد.

لماذا المصائب والآفات والأمراض؟

إن في هذه المصائب التي يرمى بها الإنسان حكمة ربانية وقد نص عليها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ(آل عمران:179).

ولكن ما هو الموقف الذي على المؤمن أن يسير عليه عندما ترمي به المصائب والابتلاءات؟ إنه الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، وتكرار الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(البقرة:156) والوعد الذي يصل إليه الإنسان نتيجة ثباته على البلاء على ما ورد في كتاب الله: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ(البقرة:157) .

ثانياً: ماذا نربح من الدنيا؟


تحدثنا عن كون الإنسان في الدنيا هدفاً للمصائب والابتلاءات، وهذه نظرة لزاوية من زوايا الدنيا، ولكن في الدنيا أيضاً الكثير من الأمور التي يحبها الإنسان ويطلبها، بل ربما يصرف عمره كله في طلبها، فتستحوذ على قلبه ونفسه، فهل لهذه الأمور الدنيوية قيمة حقيقة؟

تاجر الغرور
إن الإنسان المتعلق بهذه الدنيا هو كالتاجر الذي يظن الربح فيما يقوم به في هذه الدنيا، فهو يحسب أن ما يقوم به مما فيه مكاسب دنيوية هو أمر خالد وسيبقى، مع أن الدنيا كلها فانية لا بقاء لها. وخير شاهد على كون هذا الشخص ممن اغتر، هو أنه يخاف الموت، وذلك لأنه يرى فيه انقطاع كل ما سعى إليه، وبذل في سبيله كل غال ونفيس.

ومن أفضل الأوصاف لذلك، هذه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام : "إنكم إن رغبتم في الدنيا أفنيتم أعماركم فيما لا تبقون له ولا يبقى لكم"2.

حليف الهموم وقرين الأحزان
الهم يصيب الإنسان عندنا يتملكه القلق والخوف من فقدان محبوب ومرغوب، فالغني يحمل هم وخوف الخسارة والفقر، وصاحب المكانة الاجتماعية يحمل هم خسارتها... ويتملكه أيضاً عندما يستهدف تحصيل هذا المحبوب والمرغوب، فهو بين هم فقدان ما لديه لأنه رهينة الأيام، وهم تحصيل ما يستهدفه لأن الدنيا كماء البحر الذي لن يشبع منه ولن يتوقف عند حدود معينة من الطلب، بل سيبقى يركض ويلهث وراء ما لم يحصل عليه حتى الآن...، وهو قرين الأحزان، لشعوره بالنقص والخسارة، فالذي لا يملك يحزن لأنه لا يملك، والذي يملك ويخسر يحزن لخسارته، والذي لا يملك ولم يخسر بعد يحزن لعدم ملكه ما هو خارج عن يده...

فالإنسان في هذه الدنيا كأنه متحالف مع الهموم ومقترن مع الأحزان، في أي موقع كان وضمن أي إطار.

ثالثاً: التعلّق بالدنيا

رغم كون الدنيا مكان المصائب والابتلاءات ورغم كونها لا ربح دنيوياً حقيقياً فيها، نجد أن الكثير من الناس ارتبطوا بهذه الدنيا وتعلقوا بها بشكل يتنافى مع صفاتها الحقيقية، وكان وصف أمير المؤمنين عليه السلام لهذه العلاقة بعدة عبارات:

عبد الدنيا
إنه أعظم وصف لهذا الإنسان الذي يتعلق بهذه الدنيا، إنه يتعلق بها إلى حد العبودية لها فهو على استعداد تام للقيام بكل ما يسهّل له سبيل الوصول إلى إدراكها ونيلها.

ولكن المأساة أنه يعبد ما لا ينفعه إلا بنحو مؤقت، بل يعبد ما هو في ظاهره جميل وفي باطنه قبيح إلى حد وصف أمير المؤمنين عليه السلام لها بقوله: "جيفة قد افتضحوا بأكلها".

ويصف الإمام علي عليه السلام هذا الشخص العابد لهذه الدنيا بقوله: "قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، ولمن في يديه شيء منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها..."3.

وأما أفضل وسيلة للتحرر من هذه العبودية للدنيا فهي الابتعاد عن لذائذها، وقد ذكر ذلك الإمام الخميني قدس سره في (الأربعون حديثاً): "إعلم أن ما تناله النفس من حظ في هذه الدنيا يترك أثراً في القلب.. وهو السبب في تعلقه بالدنيا، وكلما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها، إلى أن يتجه القلب كليا نحو الدنيا وزخارفها"4.

صريع الشهوات

إنه الإنسان المستسلم لشهواته فهو قد صارعها بنفسه لمَّا دعته إليه، ولكن الغلبة والنصر كانت للشهوة وللنفس الأمَّارة، على العقل وعلى النفس المطمئنة، إنه العقل، متى انهزم أمام الشهوة أصبح أسيراً، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: "كم من عقل أسير تحت هوى أمير"5 .

ويكفي للإنسان لكي ينصر النفس المطمئنة على النفس الأمارة، وليجعل من الشهوة صريعة، أن يفكر في عاقبة الشهوة، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "أول الشهوة طرب، وآخرها عطب"6 .

رابعاً: الدنيا ممر

إن أجلى وأوضح حقيقة للدنيا أنها غير دائمة، وأنها زائلة، وأن الإنسان مهما سعى وحصّل فيها واغتر بمفاتنها، فإنه في نهاية الأمر سيتركها بل ويدخل في تلك الحفرة الصغيرة نافضاً يديه من كل ما فيها، فالإنسان في الحقيقة هو:

غريم المنايا وأسير الموت

إن حال الإنسان مع الموت، هو حال الشخص المديون، الذي حل وقت أدائه للدين، ولكنه يسعى للفرار من الدائن، ويخاف أن يلتقي به. فالموت هو أشد ما يخاف منه الإنسان، وهو الذي يلاحق هذا الإنسان، ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(الجمعة:8).


خليفة الأموات
إنها أوجز عبارة تدفع الإنسان لترك التعلق بهذه الدنيا، فإذا فكر الإنسان في أن كل ما يصل إليه كان مع من سبقه وهو ورثه منه، وأما ذلك الميت فقد انقطع عنه، ولم يعد ينتفع بها عرف كيف يحسن التصرف فيه بما يكون نفعه له في يوم القيامة. فالميت يرحل ويرثه حي آخر وهذه سنة البشر منذ أن خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة.


هل الدنيا هدفك النهائي؟

كل هذه الصفات التي أوردها أمير المؤمنين عليه السلام ليصل بنا إلى نتيجة باتت واضحة، خلاصتها أن هذه الدنيا ليست أهلاً لأن تكون هدفاً نهائياً للإنسان، ربما تكون متاعاً يستفيد منه في أيامه هذه، وطريقاً يسلك به إلى آخرته التي تنتظره، ولكنها بالتأكيد ليست الهدف الذي ينبغي على الإنسان أن يدور في فلكه.

وإذا حدد الإنسان هدفه هانت المسيرة بعد ذلك.

*وصايا الأمير، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، تشرين الثاني 2008م ، ص21-31.


1- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج 9، ص 126.
2- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج 3، ص 297.
3- نهج البلاغة، الخطبة 109.
4- الإمام الخميني، الأربعون حديثا، ص 123، الحديث السادس.
5- نهج البلاغة، الحكمة 211.
6- غرر الحكم: 2745، 3133، 2746
2011-05-13