يتم التحميل...

العبادة_

العلاقة مع الله

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: في التوراة مكتوب: يا ابن ادم، تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى.العبادة في اللغة تعني: الخضوع، والانقياد، والطاعة، عبد ربَّه يعبده عبادة وعبودية: خضع له وانقاد لأوامره، والعبادة الطاعة للَّه...

عدد الزوار: 101

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "في التوراة مكتوب: يا ابن ادم، تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى"1.

العبادة في اللغة تعني: الخضوع، والانقياد، والطاعة، "عبد ربَّه يعبده عبادة وعبودية: خضع له وانقاد لأوامره، والعبادة الطاعة للَّه.."2.

وقد أخذت العبادة معنى أضيق في الفقه الإسلامي، وهي تعني في مفهوم الفقه مجموعة شعائر يقوم بها العبد، مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس.

إلا أن المعنى اللغوي يعني أشمل من هذا وأعمّ: إنَّه يعني كما قلنا مطلق الخضوع والانقياد والطاعة.

الدين والعبادة تاريخياً
المسلَّم به تاريخياً أن العبادة موجودة منذ القديم، الظاهرة العامة في البشر هي وجود ظاهرة الدين والعبادة، والحالات النادرة هي حالات عدم الارتباط بمعبود.

يقول ديورانت، بعد أن يذكر حالات إنكار أو تشكيك في المعبود، يقول: "على أن هذه حالات نادرة الوقوع (أي حالات عدم الدِّين)، ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعمّ‏ُ البشر جميعاً اعتقاداً سليماً، وهذه، في رأي الفيلسوف، حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية..."3.

إلا أن الدين وتبعاً له العبادة مُسخت تاريخياً، فمرّ الإنسان عبر التاريخ بوهن ديني وعبادي، فخضع لضعيف مثله بل لمن هو أقل ضعفاً منه، وركع لوهم وسراب، وسجد لما لا يضر ولا ينفع، وأطاع من ليس فيه ما يؤهله لذلك!

يذكر ديورانت بعض هذه العبادات المنحرفة فيقول: "ولسنا ندري متى حلّت الشمس محل القمر سيدة على دولة السماء عند الديانة البدائيَّة... وكان الهنود في أمريكا الشمالية أحياناً يعزون هزيمتهم وانحلالهم إلى أن البيض و"الفال" القدماء عبدوا أشجار غابات معينة كانت لديهم مقدّسة... وأقدم عقيدة دينية في اسيا... هي تقديس الأشجار والينابيع والأنهار والجبال، فكثير من الجبال كان أماكن مقدّسة... أما الزلازل فليست إلا الهة ضجروا أو ضاقوا صدراً فهزّوا أكتافهم!

... ثم تدرجت عبادة الأشباح حتى أصبحت عبادة الأسلاف، فقد بات الناس يخافون موتاهم جميعاً ويعملون على إسترضائهم خشية أن يُنزلوا لعناتهم على الأحياء فيجلبوا لهم الشقاء..."4.

هذه هي بعض العبادات المنحرفة عن الفطرة، والمنافية للعقل والمنطق، وفي القران الكريم إشارات إلى بعض هذه العبادات الجاهلية: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ(النمل:24-23).

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ(الأنعام:74).

﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(الشعراء:71).

الأنبياء يحاربون العبادات المنحرفة
كان الأنبياء العظام من المحاربين وبكلّ‏ِ حزم وقوة، للعبادات المنحرفة والجاهلة، وجاهدوا في هذا السبيل مجاهدة عظيمة.

وفي نفس الوقت أعطوا الناس الوجهة الصحيحة للعبادة، وهي: عبادة اللَّه، الذي يمثل الكمال المطلق، خالق الكون، رب العالمين، بارى‏ء السموات والأرض، الذي إليه يرجع الأمر كله.

﴿وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا اللَّه(الأعراف:65).

﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ(الأعراف:73).

﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ(المائدة:72).

ولقد حطم النبي إبراهيم عليه السلام أصنام الكافرين ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(الأنبياء:57).

ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن دخل مكة منتصراً حطم الأصنام الموجودة في الكعبة، ودعا إلى عبادة الواحد القهَّار، وقال: "قولوا لا إله إلا اللَّه تفلحوا"5.

وفعلاً عندما قال العرب كلمة التوحيد وأطاعوا اللَّه وخضعوا وانقادوا له، تغيَّر حالهم رأساً على عقب، من الجهل إلى العلم، من المحكوميَّة إلى الحاكميَّة، من الذلة إلى العزة.

هذه هي العبادة للَّه والطاعة له، تغيِّر الشعوب والأفراد، وتجعلهم سادة أنفسهم أحراراً، وتخرجهم من عبودية الشهوات والهوى والأشخاص والأوهام.

يقول ديورانت: "إذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا: إن محمداً كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانه فيه أي مصلح اخر في التاريخ كله... وكانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة..."6.

أرأيتم كيف تجعل العبادة من الفقر غنى؟ هل عرفتم حقاً معنى الحديث: "يا ابن ادم تفرَّغ لعبادتي املأ قلبك غنى"، فإذا مُلأ القلب غنى، فبطبيعة الحال، سينتشر الغنى في عقل الإنسان وأخلاقه وسلوكه وروحه، وستكون حياته كلها غنى وإنتاجاً وفعالية ونشاطاً.

العبادة في القرآن الكريم‏
لقد دعا القرآن في كثير من اياته إلى العبادة السليمة، ونهى عن العبادة المنحرفة، وذكر أن غاية الخلق هي العبادة، بالإضافة إلى إلفاتات عديدة، وإليكم نماذج من الايات:

دعوة إلى عبادة اللَّه
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(البقرة:21).

لا تعبدوا الشيطان
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(يس:60-62).

اعبدوا باخلاص
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ...(الزمر:11).

﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي(الزمر:14).

لا سلطان للشيطان على العابدين المخلصين
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(ص:82-83).

الثقة والثبات على عبادة اللَّه
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(الكافرون:21).

غاية الخلق العبادة
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(الذاريات:56).

ثمرة العبادة اليقين
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(الحجر:99).

من أخلاق عباد الرحمن وصفاتهم
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا* وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا*وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا* وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًاً(الفرقان:63-69).

جزاء عباد اللَّه يوم القيامة
﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ(الزخرف:68).

العبادة في الأحاديث‏
لقد حدّدت الأحاديث مفهوم العبادة، تحديداً شاملاً، فالتقت مع المعنى اللغوي في ذلك، وذكرت الغاية من العبادة، وأنواع العابدين، وما هو العابد حقاً، وأزالت المفهوم الخاطى‏ء للعبادة، التي يحصرها في العبادات المتعارفة بين النّاس. وإليكم نماذج:

تحديد مفهوم العبادة
عن الصادق عليه السلام: "ليس العبادة هي السجود ولا الركوع، إنما هي طاعة الرجال، من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده"7.

علة العبادة
عن الرضا عليه السلام: "فإن قال: فلم تعبّدهم؟ قيل: لئلا يكونوا ناسين لذكره ولا تاركين لأدبه، ولا لاهين عن أمره ونهيه، إذا كان فيه صلاحهم وقوامهم، فلو تركوا بغير تعبُّد لطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم"8.

من ثمرات العبادة
عن علي عليه السلام: "العبادة فوز"9.

وعنه عليه السلام: "دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة"10.

متى يكون العبد عبداً
في حديث المعراج: "يا أحمد هل تدري متى يكون العبد عبداً؟ قال: لا يا ربّ، قال: إذا اجتمع فيه سبع خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وصمت يكفّه عما لا يعنيه، وخوف يزداد كل يوم من بكائه، وحياء يستحي مني في الخلاء، وأكل لا بدّ منه، ويبغض الدنيا لبغضي، لها، ويحب الأخيار لحبي لهم"11.

العبادة ليست رهبانية
قال عيسى عليه السلام لرجل: "ما تصنع؟ قال: أتعبّد، قال: فمن يعود عليك؟ قال: أخي، قال: هو أعبد منك"12.

كيف تشعر بطعم العبادة
عن المسيح عليه السلام: "بحق أقول لكم: إنه كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذه مع ما يجده من شدّة الوجع، كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حبّ‏ِ المال"13.

أنواع العباد
عن علي عليه السلام: "إن قوماً عبدوا اللَّه رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا اللَّه رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار"14.

خاتمة
العبادة حاجة إنسانية عامة، وهي تعبير عن ارتباط الناقص بالكامل، والضعيف بالقوي، والمخلوق بالخالق، بها يرتقي الإنسان ويتكامل، وبدونها يكون بلا سند ولا أنيس.

وعلينا أن نرتبط باللَّه خالق الكون ارتباطاً وثيقاً، وتكون طاعتنا له، طاعة عمل وانتاج وحركة، لا رهبانية وعزلة وخنوع.

وأن نعبده بإخلاص، لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، بل لأنه أهل للعبادة كونه الكمال والجمال المطلق.

كما قال الإمام علي عليه السلام: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا رغبة في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"15.

فائدة
الرهبانية المسيحية

روى المؤرخون من عجائب الرهبان، فحدَّثوا عن الراهب (ماكاريوس): أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرص جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب (يوسيبيس) يحمل نحو قنطارين من حديد، وقد قام ثلاثة أعوام في بئر نزح.

وقد عبد الراهب (يوحنا) ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طول هذه المدّة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.

وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائماً، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام!

وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والابار النازحة والمقابر، ويأكلون كثيراً من الكلأ والحشيش.

وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد النّاس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدّنس16، ويروي ديورانت عن الراهب (بارنار) أنه ظل ثمانية وثلاثين عاماً يعيش في صومعة واحدة ضيّقة، على فراش من ورق الشجر، وليس فيها إلا حفرة في الجدار17.

هذه بعض قصص الرهبان المؤسفة، والتي ترون فيها الانحراف عن العبادة التي أرادها اللَّه تعالى، يقول تعالى: ﴿...وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا(الحديد:27).


*أغنى الناس، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، شوال 1424هـ ، ص65-74.


1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج‏1، ص‏83.
2- دائرة معارف القرن العشرين، محمد فرد وجدي، مج، ص.
3- ول ديورانت، م.س، مج‏21، ج‏1، ص‏99، دار الجيل.
4- ول ديورانت، م.س، مج‏21، ج‏1، ص‏103.
5- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج‏18، ص‏202.
6- ول ديورانت، م.س، مج‏14 13، ج‏11، ص‏47.
7- ميزان الحكمة الري شهري، مج‏6، ص‏19، ح‏11351.
8- ن.م، ص‏10، ح‏11307.
9- ن.م، ص‏10، ح‏11301.
10- ن.م، ص‏10، ح‏11304.
11- ن.م، ص‏12، ح‏11313.
12- ن.م، ص‏17، ح‏11344.
13- ن.م، ص‏27، ح‏11416.
14- ن.م، ص‏17، ح‏11345.
15- الميزان في تفسير القران، السيد الطباطبائي، ج‏11، ص‏159.
16- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص‏187.
17- ول ديورانت، م.س، مج‏16 15، ج‏15، ص‏117.
2009-08-11