يتم التحميل...

الصلاة والإستغفار

منهج الولاية

هناك الكثير من التوجيهات الأبويّة الصادقة للإمام الخامنئي دام ظله المتعلّقة بالعبادة وروحيّتها، ومضمونها، من الصلاة إلى الذكر والاستغفار والدعاء، وغيرها من العناوين. وسنتعرّض في هذا الفصل إلى بعض هذه العناوين سائلين الله تعالى أنْ يوفّقنا للعمل بها.

عدد الزوار: 37

الصلاة والإستغفار

هناك الكثير من التوجيهات الأبويّة الصادقة للإمام الخامنئي دام ظله المتعلّقة بالعبادة وروحيّتها، ومضمونها، من الصلاة إلى الذكر والاستغفار والدعاء، وغيرها من العناوين. وسنتعرّض في هذا الفصل إلى بعض هذه العناوين سائلين الله تعالى أنْ يوفّقنا للعمل بها.

الصلاة


يُحدِّثنا الإمام الخامنئي دام ظله عن أهميّة الصلاة في البعدين الفرديّ والاجتماعيّ. فالصلاة كما هي علاج لأمراض النفس من خلال العبوديّة لله تعالى، فهي أيضاً علاج لأمراض المجتمع المنغمس في الأمور المادّيّة المحتاج لعلاقة مع الله الرحيم. يقول سماحته دام ظله:

"كلّما ازداد المصلّون المتوجّهون الخاشعون الذاكرون، كلّما قلّت الظُّلمات والأنانيّة والتفرُّد والاستبداد وسوء الظن والحرص والاعتداء والحسد، ويزداد في المقابل نور الفلاح على جبين الحياة ويتلألأ. فأساس كلِّ مرارات البشر من الغفلة عن الله، والاهتمام بالمصالح الشخصيّة فقط. والصلاة تُخرج الإنسان من سور الظلام، وتوجّه شهوته وغضبه نحو الحقيقة المتعالية والخير العام"1

"اليوم يتعرّض الإنسان والإنسانيّة للضغوط الشديدة بسبب سيطرة النظام الآلي على جميع المجتمعات البشريّة، ويضطرّ كلُّ إنسان أنْ يُنظِّم حياته الفرديّة والاجتماعيّة مع الآلة، تلك النغمة الثقيلة والمهلكة للروح، وفي هذا التناغم يخفت لون صلة الرحم والمروءة والعفو والإيثار وكلّ القيم الأخلاقيّة الأخرى، وتختفي في هذا الوضع بل تنهدم الأسرة وحنانها وأخلاق المعاشرة. منذ عشرات السنين أحسّ المشفقون وبعيدو النظر بهذا الخطر الداهم في قلب محيط المدينة الصناعيّة والآليّة وأطلقوا تحذيراتهم، لكنْ للأسف لا يزال ملايين الناس، وخصوصاً الشبّان الّذين يمتلكون أحاسيس مرهفة وروحيّة أكثر تضرّراً من غيرهم، لا يزالون في هذا البلاء الكبير دون دفاع ولا علاج.

لذلك فإنّ الناس اليوم أكثر حاجة من ذي قبل للعلاقة المعنويّة مع الله الرحيم والكريم، والصلاة هي أنجع وأفعل وسيلة لتأمين هذه الحاجة"2.

مضمون الصلاة

يتحدّث الإمام الخامنئي دام ظله عن الصلاة الحقيقيّة، الّتي تُقام بحضور القلب، الصلاة الّتي تترك آثارها على حياة الإنسان، والصلاة الّتي تؤثِّر في بناء الذات. والصلاة لا تكون كذلك إلّا إذا أُقيمت بحضور القلب وتوجّهه نحو الحقّ جلَّ وعلا. يقول دام ظله في هذا الإطار:

"إنّ العبادات، وعلى رأسها الصلاة، لها كلُّ هذه الأهميّة، وسُمّيت الصلاة بعمود الدِّين، ذلك عندما تكون الصلاة مقرونة بالتوجّه والحضور، فإنّها تجعل قلب المصلّي وروحه والجوّ من حوله لطيفاً ونورانيّاً ومعطّراً، وتُنير البيت والأسرة وجوّ العمل والأصدقاء وجوّ المحلّة وكلّ أجواء الحياة..."3.

ويقول في مكان آخر: "رغم ما لدينا حول الصلاة من كلام مختار وقيِّم مرويّ عن الأئمّة المعصومين صلى الله عليه وآله وسلم وعن المفكِّرين وأصحاب الرأي الدِّينيّ ممّا يُنوّر قلوب الهداية الخاصّة، ويُعرّفها بحقيقة وحكمة هذه الفريضة الإلهيّة الكبرى، رغم ذلك ينبغي القول إنّ منزلة الصلاة لم تُعرف جيّداً عند كثير من الناس، حتّى عند الّذين يعتبرون الصلاة فريضة ويؤدّونها. لا شكّ أنّ واجباً ثقيلاً يقع على عاتق علماء المجتمعات الإسلاميّة في هذا المجال، وينبغي أنْ تُستعمل جميع أساليب التبيين والتوضيح من أجل أداء حقّ معرفة الصلاة"4.

الصلاة معبر السلوك

"ينبغي القول إنّ الصلاة هي المعبر الأساس لسلوك الإنسان في الطريق الّذي وضعته الأديان الإلهيّة أمام البشر، ليتمكّن من خلاله من بلوغ الهدف والغاية الأساس للحياة، أي الفلاح ونيل سعادة الدنيا والآخرة. والصلاة هي الخطوة الأولى للسلوك إلى الله. لكنْ سعة هذا العامل الإلهيّ كبيرة لدرجة أنّه يُصبح جناحاً يُحلِّق به الإنسان العرشي في أوج كماله البشريّ أيضاً، إلى حدّ أنّ أفضل البشر في التاريخ أي رسول الإسلام الأعظم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الصلاة قرّة عيني" وكان يطلب من المؤذِّن عند حلول وقت الصلاة أنْ يُريح نفسه ويطمئنها بأداء الأذان. ولعلّه يُمكن القول إنّه ليس لأيِّ عملٍ عباديٍّ آخر غير الصلاة كلّ هذا الأثر الكبير وتيسير أمور الإنسان ودعمه خلال جميع مراحل تكامله المعنويّ.

فالصلاة تمنح أفراد المجتمع السلامة والسموّ الأخلاقيّ والمعنويّ أوّلاً، كما أنّها بشكلها ومحتواها الخاصّ تدعو المصلّي للانضباط وتُنجيه من الخواء والضياع، لذلك ينبغي أنْ تُعدّ بحقٍّ كأحد أهمِّ عوامل الانضباط والانتظام الاجتماعيّ.

إذا راجت الصلاة بين الناس بحضور وعن شوقٍ وفي وقتِ فضيلتها، فسينال الناس نتائجها القطعيّة تلك. ومن البديهيّ أنّ الصلاة بكسلٍ، ودون حضور، أو رياء، لن تحمل أيّاً من تلك الفوائد"5.

الاستغفار

يُعطي سماحة الإمام الخامنئي دام ظله الاستغفار مساحة كبيرة في حياة الإنسان، ويغوص في عمق هذا المفهوم شارحاً معناه، مشيراً إلى فوائده على دين الإنسان ودنياه، فيقول عن الاستغفار وأهميّته: "الاستغفار يُنجيكم من الحقارة. الاستغفار يُنجينا من القيود والسلاسل والغلّ. الاستغفار يُجلي صدأ قلوبكم النورانيّة الّتي وهبها الله تعالى لكم ويُطهّرها. القلب يعني النفس، يعني الروح، يعني الهويّة الواقعيّة للإنسان. إنّه شيء نورانيّ جدّاً. كلُّ إنسان نورانيّ، حتّى الإنسان الّذي لا يعرف الله ولا يرتبط به، فإنّه يحمل نورانيّة في جوهره وذاته، لكنّ الصدأ يُغطّي قلبه لافتقاره إلى المعرفة ولارتكابه الذنوب وركوبه الشهوات، والاستغفار يُجلي ذلك الصدأ وينوّره.

الاستغفار يعني طلب المغفرة والعفو الإلهيّ عن الذنوب. إذا تمّ الاستغفار بشكلٍ صحيح فسينفتح باب البركات الإلهيّة في وجه الإنسان، فكلُّ ما يحتاج إليه الفرد البشريّ والمجتمع الإنسانيّ من ألطافٍ إلهيّة وتفضّلات ورحمة ونورانيّة وهداية إلهيّة وتوفيق من الله وعون على الأمور ونجاح في الساحات المختلفة، تنغلق أبوابها بسبب الذنوب الّتي نرتكبها. فالذنوب تُصبح حجاباً بيننا وبين الرحمة والتفضُّل الإلهيّ. والاستغفار يُزيل ذلك الحجاب، ويفتح أمامنا سبيل الرحمة والتفضُّل الإلهيّ، تلك هي فائدة الاستغفار"6.

آثار الاستغفار

وعن آثار الاستغفار في الدنيا والآخرة يقول دام ظله: "لاحظوا آيات القرآن في عدّة مواضع قد ذكرت للاستغفار فوائد دنيويّة وفوائد أخرويّة. مثلاً: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه7 ، ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِدْرَار8. كلّ تلك الآيات - من هذا القبيل - يُفهم منها أنّ السبيل إلى نيل التفضُّل الإلهيّ هو الاستغفار، وببركته ينهمر الفضل الإلهيّ على قلب الإنسان وجسمه وعلى المجتمع الإنسانيّ، لذلك فإنّ الاستغفار مهمّ.

الاستغفار بذاته هو جزءٌ من التوبة، والتوبة تعني العودة إلى الله. وعليه فإنّ الاستغفار هو ركنٌ من أركان التوبة، وهو طلب العفو والمغفرة من الله تعالى. وهي إحدى النِّعم الإلهيّة الكبرى، أي أنْ يفتح الله تعالى باب التوبة بوجه عباده ليتمكّنوا من السير في طريق الكمال، وأن لا يُقعدهم الذنب عن ذلك، لأنّ الذنب يُسقط الإنسان من أوج علوّه الإنسانيّ. فكلُّ ذنب يوجِّه لروح الإنسان وصفائه ومعنويّاته وعزّته الروحيّة ضربة، ويذهب بشفافيّة روح الإنسان ويُكدِّرها. فالذنب يقضي على الجانب المعنويّ للإنسان والّذي يُميِّز الإنسان عن باقي موجودات عالَم المادّة، ويُسقط شفافيّته ويقرِّبه من الحيوانات والجمادات.

وعلاوة على هذا الجانب المعنويّ، فإنّ الذنوب تتسبّب بسلب توفيق الإنسان في حياته. فالإنسان يفشل في كثير من ميادين التحرُّك البشريّ بسبب الذنوب الّتي تصدر عنه. ولذلك الأمر تبرير علميّ وفلسفيّ ونفسيّ أيضاً، وليس تعبُّداً وألفاظاً فقط"9.

نموذج معركة أُحُد
"كيف يُقعِد الذنب الإنسان؟ مثلاً في معركة أُحُد تحوّل الانتصار إلى هزيمة بسبب التقصير الجماعيّ للمسلمين. أي أنّ المسلمين انتصروا في البداية، لكنّ الرماة الّذين يُفترض أنْ يبقوا عند شقّ الجبل ليحفظوا ظهر الجبهة من النفوذ والتسلُّل، طمعوا بالغنائم وتركوا متاريسهم وتوجّهوا نحو الساحة، فالتفّ العدوّ من الخلف ونفّذ هجومه، فمزّق المسلمين وكانت هزيمة أُحُد بسبب ذلك. وقد تحدّثت عشرة أو اثنتا عشرة آية من سورة آل عمران عن قضيّة الهزيمة تلك، لأنّ المسلمين كانوا يعيشون اضطراباً شديداً بسبب تلك الهزيمة، وكانت ثقيلة عليهم كثيراً، فجاءت آيات القرآن تلك لتهبهم الاطمئنان وتهديهم، ولتُفهمهم سبب هزيمتهم وسبب ذلك الضعف، إلى أن يصل إلى الآية الشريفة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُو10 ، أي ما رأيتموه في معركة أُحُد من استدبار بعضكم للعدوّ وتسبّب بالهزيمة  كانت له أسبابه ومقدّماته، فكان هؤلاء يُعانون من ضعفٍ داخليٍّ، فقد أزلّهم الشيطان بمساعدة الأعمال الّتي كانوا قد ارتكبوها من قبل، أي إنّ ذنوبهم السابقة قد تظهر آثارها في الجبهة، في الجبهة العسكريّة أو السياسيّة أو عند مواجهة العدوّ أو عند ممارسة البناء أو في ممارسة التعليم والتربية، وحيث تجب الاستقامة، وحيث يجب الفهم والإدراك الدقيق، وحيث يجب أنْ يكون الإنسان كالفولاذ يقطع ويتقدّم ولا تقف الموانع بوجهه. طبعاً تلك هي الذنوب الّتي لم تمحها التوبة النصوح والاستغفار الحقيقيّ.

في نفس السورة هناك آية أخرى تُبيّن هذا المعنى بصورة أخرى. القرآن يُريد أنْ يقول لا عجب أنّكم تلقّيتم الهزيمة وواجهتم مشكلة في جبهة الحرب، فمثل هذه الأمور تحصل، وقد حصلت من قبل، فيقول: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين11 أي ما الّذي دهاكم وأصابكم من تزلزل وأشعَرَ بعضكم بالضعف واليأس بسبب هزيمتكم في معركة أُحُد؟ فالأنبياء السابقون قد تعرّضوا لحوادث أيضاً في ساحة الحرب لكنّهم لم يضعفوا ويهنوا بسبب ما أصابهم، ثُمّ يقول: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا...12.

أي إنّ أصحاب الأنبياء كانوا إذا واجهوا المصائب في الحروب والحوادث المختلفة، كانوا يتوجّهون إلى الدعاء إلى الله ويقولون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَ، وهذا يدلّ على أنّ الحوادث والمصائب ناتجة أساساً عن الذنوب الّتي يحتطبها الإنسان. تلك هي قضيّة الذنوب"13.

أثر الذنوب

"لاحظوا أنّ الذنوب الّتي يرتكبها الإنسان، والمخالفات المختلفة، والأعمال الناشئة عن الشهوة وحبّ الدنيا والطمع والحرص على مال الدنيا والتعلُّق بالمنصب الدنيويّ والبخل بما في اليد والحسد والغضب، كلّ تلك الأمور تترك في وجود الإنسان أثرين قطعيّين:

الأثر الأوّل، معنويّ: وهو تجريد الروح من روحانيّتها وإخراجها من نورانيّتها، وإضعاف البعد الروحيّ عند الإنسان، وسدّ سبيل الرحمة الإلهيّة بوجهه.

الأثر الثاني، مادّي: عندما يقتضي الوضع من الإنسان أنْ يصمد ويقاوم ويُبدي إرادته في ساحة المواجهات الاجتماعيّة، تبرز آثار ذنوبه عليه، وإذا لم يكن هناك عاملٌ آخر ليجبر الوضع والضعف فسيهلك الإنسان ويُمنى بالهزيمة. في بعض الأحيان تتدخّل عوامل أخرى كصفةٍ حسنة أو عملٍ حسن قام به الإنسان فيجبر الأمر ولسنا هنا في صدده، لكنّ المؤكّد هو أنّ الذنب بذاته له أثره.

لذلك أنعم الله على الإنسان بنعمة كبيرة هي المغفرة... فالذنب الّذي ارتكبته كالجرح الّذي أحدثته في بدنك وأدخلت بذلك الميكروب إليه، فالمرض حتميّ. إذا أردت أنْ تقضي على أثر هذا الجرح والمرض في وجودك، فقد فتح الله تعالى لك باب التوبة والاستغفار والإنابة والعودة إليه، فإنْ عدت سيجبر الله تعالى النقص، تلك هي النعمة الكبرى الّتي منّ الله تعالى بها علينا"14.

موانع الاستغفار

1- الغفلة
يُشير سماحة الإمام الخامنئي دام ظله في حديثه عن موانع الاستغفار إلى مسألة الغفلة، ويعتبرها من أهمِّ موانع الاستغفار، موجِّهاً خطاباً شاملاً لكلِّ المكلّفين، محذِّراً إيّاهم من الوقوع في فخِّ الغفلة، يقول سماحته دام ظله: "إذا أردنا أنْ نحصل على الاستغفار وعلى هذه النعمة الإلهيّة، علينا أنْ نبتعد عن خصلتين: الغفلة والغرور. فالغفلة هي أنْ لا يلتفت الإنسان كليّاً إلى أنّه يُذنب، كبعض الناس، لا أقول الكثير منهم، لا أُركِّز هنا على قلّتهم وكثرتهم، فقد يكونون قلائل في بعض المجتمعات، على أيِّ حال هذا النوع من الناس موجود في الدنيا بين الناس، هم غافلون ويرتكبون الذنوب دون أنْ يلتفتوا إلى أنّهم يرتكبون مخالفة، تراه يكذب ويتآمر ويغتاب ويُلحق الضرر ويعمل شرّاً ويُدمِّر ويقتل ويسحق مختلف الناس الأبرياء، وعلى صعيدٍ أكبر وأوسع يجعل الشعوب تعيش الهلع، يُضلّ الناس، كلّ ذلك ولا يحسّ بأنّه يرتكب مخالفة. وإذا قال له أحدٌ: إنّك ترتكب ذنباً، فقد يقهقه ويسخر ويقول: ذنب؟ أيّ ذنب؟

بعض أولئك الغافلين لا يعتقدون أساساً بالثواب والعقاب، وبعضهم يعتقد بالثواب لكنّه غارق في الغفلة لا يلتفت إلى ما يفعل مطلقاً. إذا دقّقنا في ذلك في حياتنا اليوميّة سنجد أنّ بعض حالات حياتنا شبيهة بحالات الغافلين. فالغفلة شيءٌ عجيب جدّاً وخطرٌ كبير. لعلّ الإنسان لا يواجه خطراً أكبر ولا عدوّاً أشدّ من الغفلة. هذا هو حال بعض الناس.

فالإنسان الغافل لا يُفكِّر بالاستغفار أبداً، بل لا ينتبه إلى أنّه يُذنب رغم أنّه غارق في الذنوب، لكنّه في سكر ونوم حقيقةً كالإنسان الّذي يتحرّك خلال نومه. لذلك فإنّ أهل السلوك الأخلاقيّ عندما يُبيّنون منازل السالكين في مسلك الأخلاق وتهذيب النفس، يُطلقون على المنزل الّذي يُريد الإنسان فيه أنْ يخرج من الغفلة يُسمّونه منزل اليقظة.

وفي المصطلحات القرآنيّة، فإنّ النقطة المقابلة لهذه الغفلة هي التقوى، والتقوى تعني اليقظة والرقابة الدائمة للنفس. فإذا غفل الإنسان ارتكَبَ عشرات الذنوب، ولا يحسّ مطلقاً بأنّه مذنب. والإنسان المتّقي في النقطة المقابلة، فإذا بدر منه أيّ ذنب طفيف يتذكّر فوراً أنّه قد أذنب، ويسعى إلى جبران ذلك ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُو15. فبمجرد أنْ يمرّ الشيطان من جنبهم ويلفحهم ريحه، يُدركون فوراً أنّ الشيطان قد أصابهم وأنّهم قد أخطأوا وغفلوا، لذلك ﴿تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون16.

أعزّائي، أيُّها الإخوة والأخوات، كائناً من تكون، التفتْ، فهذا الكلام ليس موجّهاً لجمع من الناس لأقول: على قليلي الإطلاع أو الأمّيين أو الشبّان أو الصغار أنْ يلتفتوا، كلّا على الجميع أنْ يلتفتوا، من علماء ومفكِّرين وكبار وصغار ومتموّلين وفقراء، على الجميع أنْ يلتفتوا إلى أنّ أدنى غفلة تلمّ بهم قد توصلهم لارتكاب الذنوب دون أنْ يلتفتوا إلى أنّهم يُذنبون، فذلك أمرٌ عظيم جدّاً.

فالذنب الّذي نرتكبه أنا وأنتم ولا نلتفت له، ولأنّنا لم نلتفت إلى أنّنا قد أذنبنا فلن نتوب من ذلك الذنب ونستغفر منه، ثُمّ في يوم القيامة تنفتح أعيننا، عندها نتعجّب من وجود أشياء في صحيفة أعمالنا. يتعجّب الإنسان ويتساءل: متى قمت بتلك الأعمال؟ ولا يتذّكر أبداً، ذلك هو ذنب الغفلة وإشكاله. إذاً، فالغفلة هي أحد موانع الاستغفار"17.

2- الغرور
المانع الآخر الّذي يُركِّز عليه سماحة الإمام الخامنئي دام ظله، هو الاغترار بالله تعالى، حيث يتحدّث أوّلاً عن معنى الغرور، وكيفيّة حصوله في قلب الإنسان، ويستشهد على كلامه بدعاء من الصحيفة السّجاديّة يُبيّن مدى الخطر الكبير على أخلاق الإنسان الّذي يُسبّبه الاغترار بالله تعالى، يقول دام ظله:

"المانع الثاني هو الغرور، فما أنْ يؤدّي الإنسان عملاً صغيراً حتّى يُصاب بالغرور، لدينا في تعابير الدعاء والرواية عبارة (الاغترار بالله) وفي الدعاء (64) من الصحيفة السجّاديّة والّذي يُقرأ في أيّام الجمعة هذه (أي شهر رمضان المبارك) ، توجد عبارة مؤثّرة جدّاً وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وَالشَّقاءُ الأشْقَى لِمَنِ اغْتَرَّ بِكَ. مَا أكْثَرَ تَصَرُّفَهُ فِي عَذَابِكَ، وَمَا أَطْوَلَ تَرَدُّدَهُ فِيْ عِقَابِكَ، وَمَا أَبْعَدَ غَايَتَهُ مِنَ الْفَرَجِ، وَمَا أَقْنَطَهُ مِنْ سُهُولَةِ الْمَخْرَجِ".

فالمغرور حسب تعبير هذه الرواية مبتلى بحالة (الاغترار بالله) والغُرور يجعل المغرور بعيداً جدّاً عن العمران، ويده قاصرة جدّاً عن الخلاص والسلامة. لماذا؟ لأنّه بمجرّد أنْ يؤدّي أيّ عملٍ صغير، فيُصلّي مثلاً ركعتي صلاة، أو يُقدّم خدمة للناس، أو يودع مالاً في صندوقٍ ما، أو يؤدّي أيّ عملٍ في سبيل الله، فإنّه يُصاب بالغرور فوراً، ويقول في نفسه قد صلح عملي ووضعي عند الله وقد سوّيت حسابي وسدّدته ولم أعد بحاجة لشيء! لا يذكر ذلك بلسانه، بل يُردّده في قلبه.

التفتوا جيّداً، إنّ الله تعالى عندما فتح باب التوبة، وقال إنّي أغفر الذنوب، فليس معنى ذلك أنّ الذنوب أمرٌ هيِّنٌ وصغير، كلّا فالذنوب أحياناً تُضيّع الوجود الحقيقيّ للإنسان، تُنهيه، وتجعل من الإنسان الّذي كان في مرتبة عالية من الحياة الإنسانيّة، تجعله حيواناً مفترساً قذراً لا قيمة له، هكذا هو الذنب، فلا تتصوّروا أنّ الذنب أمرٌ بسيط، فالكذب والغيبة والاستهتار بشرف الإنسان والظلم ولو بكلمة واحدة ذنوبٌ غير بسيطة ولا هيّنة.

وإذا أراد الإنسان أنْ يحسّ بأنّه مذنب، ليس ضروريّاً أن يكون غارقاً في الذنوب لسنواتٍ طويلة، كلّا فالذنب الواحد ينبغي أنْ لا يُستصغر، ففي الروايات وفي باب استحقار الذنوب نجد أنّ استحقار الذنوب مذموم، وسبب قول الله تعالى إنّنا نغفر هو أنّ العودة إلى الله مهمّة جدّاً، وليس معناه أنّ الذنب صغير ولا قيمة له. الذنب أمرٌ خطير جدّاً، لكنّ العودة لله والتوجّه إليه وذكره أمور مهمّة لدرجة أنّ من يقوم بها بشكلٍ صادق وصحيح وحقيقيّ فإنّ مرضه المستعصي ذاك سيُشفى.

الإمام السّجاد صلى الله عليه وآله وسلم يُناجي ربّه في دعاءٍ آخر فيقول: "فأمّا أنت يا إلهي فأهلٌ أنْ لا يغترّ بك الصدّيقون". لاحظوا أيّ بيان وأيّة معرفة في هذا الدعاء، فهذا هو الطريق. إنّه يقول إنّ الصدّيقين الّذين ارتقوا إلى مقامٍ سامٍ من العبوديّة لا ينبغي لهم الاغترار -لأنّهم ساروا في الطريق الصحيح إلى الله-، يظنّون أنّهم لم يعودوا بحاجة للجدّ والجهد، كلّا "أنْ لا يغترّ بك الصدّيقون" لأنّ اغترارهم يمنعهم من الاستغفار، فالإنسان يستغفر عندما لا يكون غافلاً ولا يكون مغترّاً بالله ولا يكون مخدوعاً ومعجباً بنفسه"18.

الاستغفار المؤثِّر

يتحدّث الإمام الخامنئي دام ظله عن الاستغفار المؤثِّر وكيفيّته قائلاً: "المسألة الأخرى هي أنّ الاستغفار الّذي يُسهِّل الأمور هو الاستغفار الحقيقيّ والجدّيّ والمتضمّن للطلب الحقيقيّ. افترضوا أنّ أحدكم ابتُلي بمشكلةٍ كبيرة وأراد أنْ يسأل الله رفع ذلك البلاء عنه، كأنْ يواجه أحد أعزّائه مشكلة لا سمح الله، وسعى لحلِّ المشكلة بالطرق العاديّة فلم يُفلح، ثُمّ توسّل بربِّ العالمين ودعاه وتضرّع إليه، لنفترض أنّ إنساناً أُصيب أحد أعزائه بمرض، وتوجّه إلى بيت الله الحرام ليدعو، فكيف وبأيِّ حالٍ سيطلب من الله؟ اطلبوا من الله غفران ذنوبكم بنفس تلك الحال، اطلبوا المغفرة حقيقةً، وقرّروا أنْ لا تُعاودوا ارتكاب ذلك الذنب".

"قد يُقرِّر الإنسان أنْ لا يعود لذنب كان قد ارتكبه وتاب عنه، لكنّه يزلّ مجدّداً ويرتكبه، عليه حينها أنْ يُعاود التوبة منه أيضاً، فلو عاد الإنسان عن توبته مائة مرّة، فإنّ باب التوبة مفتوح أمامه للمرّة الواحدة بعد المائة أيضاً، لكنْ عندما تتوب وتستغفر يجب أنْ لا تنوي منذ البداية أنّني استغفر ثُمّ أعود لارتكاب نفس الخطأ والمخالفة، لا يصحّ ذلك.

في روايةٍ لأحد الأئمّة عليهم السلام قال: "من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه، فقد استهزأ بنفسه"19. أنْ يفرح الإنسان بذنبه ويردّد بلسانه (أستغفر الله) فهو يسخر بذلك من نفسه، وأيّ استغفار هو ذاك؟! إنّه ليس استغفاراً، فالاستغفار يعني أنْ يعود الإنسان، وأنْ يطلب من الله تعالى بجدٍّ أن يعفو عن عمله السيّئ، فكيف يُقرِّر الإنسان أنْ يعود لمثل ذلك؟ هل يجرؤ في مثل هذه الحالة أنْ يطلب من الله العفو؟

السبّحة في الكفّ، والتوبة على الشفة، والقلب كلّه شوقٌ للمعصية.

تضحك المعصية ساخرة من مثل هذا الاستغفار.

أيُّ استغفار هذا؟ إنّه استغفارٌ غير كافٍ. ينبغي أنْ يكون الاستغفار جدّيّاً وحقيقيّاً. والاستغفار ليس مختصّاً بفئةٍ من الناس لنقول على الّذين أكثروا المعاصي أنْ يستغفروا، بل على جميع الناس حتّى في مستوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمعليه أنْ يستغفر ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر20 فحتّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليه أن يستغفر...

الاستغفار للجميع. لذا لاحظوا الأئمّة عليهم السلام أيّ تحرّق وتململٍ لهم في هذه الأدعية، وبعض الناس يظنّ أنّ الإمام السجّاد صلى الله عليه وآله وسلم تضرّع هكذا ليعلّم الآخرين ذلك، نعم هناك تعليم بالشكل والمضمون، لكنْ الأساس ليس كذلك، أساس المسألة هو حالة الطلب لدى هذا العبد الصالح والإنسان السامي والعظيم، وهذا التضرُّع لله كان منه لنفسه، وهذا الخوف من عذاب الله والميل للتقرّب إلى الله ورضوانه كان منه لنفسه، وهذا الاستغفار والطلب من الله كان حقيقة منه لنفسه.

قد يكون الاهتمام بالمباحات في حياتهم كالّلذّة المباحة والأعمال المباحة الأخرى تُصبح في نظر الإنسان الّذي سما إلى تلك الدرجة، تبدو سقوطاً وانحطاطاً، وهو يرغب أنْ لا يقع في إطار الضرورات المادّيّة والجسديّة، وأنْ لا يُعير هذه المباحات وقضايا الحياة العاديّة نظرة أو لمحة، وأنْ يغور أكثر في طريق المعرفة وفي الوادي اللامتناهي للسير نحو الرضوان الإلهيّ وجنّة المعرفة الإلهيّة، وعندما يرى أنّه حرم نفسه من بعض ذلك فإنّه يستغفر، لذا فإنّ الاستغفار للجميع.

... ليستغفر الجميع، ليستغفر أهل العبادة، والمتوسّطون في العبادة، والذين يكتفون بأقلّ الواجبات، وحتّى أولئك الّذين يتركون أحياناً بعض العبادات الواجبة لا سمح الله، ليلتفت الجميع إلى أنّ علاقتهم هذه مع الله تيسّر أمورهم وتدفعهم إلى الأمام.

اسألوا الله تعالى العفو والمغفرة، اسألوا الله أنْ يُزيح عنكم الذنوب المانعة، أنْ يُزيل هذه السحب من أمام شمس فيض لطفه وتفضّله، حتّى يشعّ لطفه على هذه القلوب والأنفس. عندها سترون السمو والعزّة"21.

خاتمة

إنّ ما أفادنا إيّاه سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله، يُلقي علينا الحجّة البالغة في الالتزام بهذا النهج الإيمانيّ المحمّديّ الأصيل، الّذي ينبع من بحر القائد العزيز ومعارف أهل البيت عليهم السلام، الثِقلين اللّذين ما إنْ تمسّكنا بهما نجونا، ليصبَّ في سويداء القلب المتلهّف للحقائق النورانيّة الإلهيّة. نسأل الله تبارك وتعالى أنْ يوفّقنا للخير والعمل به والسعي لمرضاته، والفوز بنُعمى الدارين آمين ربّ العالمين بحقّ محمّد وآله الطاهرين.

*توجيهات أخلاقية، سلسلة في رحاب الولي الخامنئي، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- من ندائه إلى مؤتمر الصلاة (8/9/1998م).
2- من ندائه إلى المؤتمر السابع للصلاة في أرومية (28/9/1997م).
3- م.ن.
4- من ندائه إلى ملتقى الصلاة التاسع (8/9/1999م).
5- من ندائه إلى ملتقى الصلاة التاسع (8/9/1999م).
6- أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص163.
7- سورة هود، الآية: 3.
8- سورة هود، الآية: 25.
9- أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص165.
10- سورة آل عمران، الآية: 155.
11- سورة آل عمران، الآية: 146.
12- سورة آل عمران، الآية: 147.
أ13- خلاق ومعنويت (فارسي)، ص165.
14- أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص165.
15- سورة الأعراف، الآية: 201.
16- سورة الأعراف، الآية: 20
17- أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص172.
18- خلاق ومعنويت (فارسي)، ص173.
19- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، طبعة دار الوفاء، الثانية المنقحة، ج75، ص 356.
20- سورة الفتح، الآية: 2.
21- من خطبة صلاة الجمعة. (18/1/1997م).

2016-03-03