يتم التحميل...

محبّة أهل البيت عليهم السلام

مواعظ من نهج البلاغة

من خطبة له عليه السلام لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

عدد الزوار: 50

من خطبة له عليه السلام لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له عليه السلام: "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان".نهج البلاغة، الخطبة 12.

تمهيد
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور1.

أجمع أهل البيت وأولياؤهم على أنّ المقصود في (القربى) هنا إنّما هم: عليّ وفاطمة وأبناؤهما، والمعنى: قل لا أسألكم على أداء الرسالة أجراً إلا أن تودّوا قرابتي وتحفظوني فيهم. وهذا في الحقيقة ليس أجراً له صلى الله عليه واله وسلم، لأنّ قرابته حجج الله البالغة على الخلق، ونعمه السابغة لديهم، فمودّتهم لازمة للخلق، ونفعها عائد عليهم، كما قال في سورة سبأ - وهو أصدق القائلين-: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ2، يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرَض الدنيا ليتّهمني المنافقون، وما طلبت منكم أجراً من مودّة قرابتي فإنّما هو لكم.

وقد روى الزمخشريّ وهو من أعلام المفسّرين السنّة، قال: "أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت، وردّه (النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وتلاها عليهم)" إلى أن قال (أي الزمخشري): "والظاهر العموم في أيّ حسنة كانت إلا أنّها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولاً أوّليّاً كأنّ سائر الحسنات لها توابع"3.

وروى ابن حجر الهيثميّ وغيره: عن ابن عبّاس قال: لما نزلت ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: "عليّ وفاطمة وابناهما"4.

وفي الحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بلغة للباحث وهداية للطالب وقد ذكره أعلام المسلمين في كتبهم، إذ يقول صلى الله عليه واله وسلم : "من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له.... ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله..."5.

وبعد هذا كلّه يتبيّن لنا أنّ محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم الخالصة هي سبيل النجاة، وسبب الفلاح، ومنطلق الوصول إلى ساحة رضا الله تعالى، وبدونها لا يقبل العمل إذ إنّ سائر الحسنات لها توابع.

ولنعم ما قيل:

إذا أنا لم أهوَ النبيّ وآله                   فمن غيرهم لي في القيامة يشفع
فلا دين إلا حبّ آل محمّد                 ولا شيء في يوم القيامة أنفع

لماذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بمحبّتهم عليهم السلام؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال يظهر ممّا روي عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام حيث روى محمّد بن يعقوب عن عليّ بن محمّد عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري أنّ العالم كتب إليه يعني الحسن بن عليّ العسكريّ: "إنّ الله تعالى بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليها بل رحمة منه إليكم -لا إله إلا هو- ليميز الخبيث من الطيّب وليبتلي ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنّته ففوّض عليكم الحجّ والعمرة وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرايض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمّد صلى الله عليه واله وسلم والأوصياء من ولده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرايض، وهل تدخل قرية إلا من بابها؟!

فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم صلى الله عليه واله وسلم قال الله عزّ وجلّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً فأمركم بأدائها إليهم ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم ويعرّفكم بذلك البركة والنماء والثروة وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فاعلموا أنّ من يبخل فإنّما يبخل على نفسه إنّ الله هو الغنيّ وأنتم الفقراء إليه لا إله إلّا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون6 والعاقبة للمتّقين والحمد لله ربّ العالمين"7.

فمحبّة أهل البيت عليهم السلام واتّباعهم هي امتحان للمؤمنين برسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وسلم بها يميّز الله سبحانه الخبيث من الطيب ويرفع الدرجات ويجعل البركة في الدنيا والآخرة.

ولنعم ما قال الفرزدق:

هم معشر حبّهم دين وبغضهم                كفر وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبّهم               ويستربّ به الإحسان والنعم
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم                     في كلّ برّ ومختوم به الكلِم


كيف تكون المحبّة؟
إنّ المحبّ صنفان فصنف أحبّ بقلبه ولم يظهر ذلك الحبّ بعمله وصنف أحبّ بقلبه وأيّد ذلك بعمله، فأيّ الصنفين يُقصد من محبّة أهل البيت عليهم السلام؟
نجد الجواب عن هذا السؤال أيضاً في كلام إمامنا الباقر عليه السلام حيث قال لجابر بن عبد الله الأنصاريّ:" يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه؛ وما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال عليه السلام: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله فرسول الله صلى الله عليه واله وسلم خير من عليّ عليه السلام ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"8.

إنّ كثيراً من الروايات جاءت دالة على نفس هذا المعنى وفيه تحذير واضح لكلّ من ادّعى محبّة وودّ وولاية أهل البيت ولم يعمل بعملهم، فالأمر الإلهيّ بمودّتهم عليهم السلام لا عن عبث بل المراد منه أنّهم وصلوا إلى هذه الدرجة بطاعتهم لله فكلّ عمل يقدمون عليه لا يمكن أن تشوبه شائبة المعصية، وإلّا فكيف يأمر الله تعالى بمودّة العصاة ومحبّتهم، إنّه سبحانه يأمر بمودّة المطيعين، لأنّ محبّتهم من محبّة عملهم، فإن كنت من أهل هذا الحبّ فعليك بالعمل الموافق له، وإلّا تكون كما قال الفرزدق للإمام الحسين عليه السلام في وصفه لأهل الكوفة: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

الاقتداءُ بالإمام عليّ عليه السلام في جميع الأبعاد

وفي هذا يقول الإمام الخمينيّ : "نُقِل عن أمير المؤمنين عليه السلام شغله بعامَّة المسلمين وفكره بالجائعين، فكان يُعاني شظفَ العَيْش وشدّة الجوع خشية أن يكون أحد في الثغور الإسلاميّة من هو أكثر جوعاً منه.

ذلك أميرُنا، هو سيِّدنا، إمامُنا، وما أكثر ما نقول عنه: إمامُنا، ولا نقتدي به!

فليس لنا اقتداء في الأعمال، أهذا هو معنى (الإمام)؟! في حين أنّ معنى الإمام والشيعة هو أن يتقدّمَهم، ويقتفوا أثره(فلو كان هناك جنازة فيها نعش ومن يريد تشييع صاحب النعش يمشي في طريق غير طريقه أكان يسمّى مشيّعاً؟!).

هكذا يجب أن يكون الشيعة؛ أن يتّبعوا علياً- عليه السلام -(في أعماله وأفعاله) ولا قدرة لنا طبعاً أن نكون مثلَه( يعني أن نصل إلى مقامه ومنزلته). لا أحد يمتلك هذه القدرة، لكن(بالإمكان أن) نتّبعه في الزهد والتقوى والانتصار للمظلومين ومساعدة الفقراء
"9.

ومن خطبة للإمام عليّ عليه السلام: "ألا وإنّ لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه (الثوب الخلق)، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد"10.

أهوى أخيك معنا؟
فمن كان يمتلك هذه الخصائص ولديه هذا الحبّ فهو ممّن ذكره أمير المؤمنين عليه السلام في معركة الجمل إذ سأله بعض أصحابه فقال: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له عليه السلام: "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: "فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان"11.

إنّ الجواب من الإمام عليه السلام فيه أمل المحبّ ومنية المريد إذ معناه أنّ من كان يحبّنا ويميل بقلبه إلينا فهو معنا ومشارك فيما صنعنا وشريك في أجرنا حتّى إن لم يكن معنا في مكاننا وزماننا.
ونحن نلاحظ تأكيد الإمام عليه السلام على الهوى، فإنّ من كان قلبه معه فهو مشارك في هذا المشهد، إذ لا فرق بين حاضر وغائب، ولا بين زمان ومكان، وقد أنبأ الإمام أنّه سيأتي رجال يرعف ويجود بهم الزمان بعد حين، تكون قلوبهم معنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، وهؤلاء كأنّما هم حاضرون معنا في معركتنا هذه...

فالهوى هنا هوى من لو أدرك أمير المؤمنين عليه السلام لكان معه في جنده وحارب بين يديه وبين يدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في معارك بدر وأحد وخيبر والأحزاب، بل كان ممّن نصر الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء ووقاه بنفسه الحتوف وحدّ السيوف.

نقول في زيارته عليه السلام: "لبّيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني فقد أجابك قلبي وشعري وبشري ورأيي وهواي"12.

*مواعظ من نهج البلاغة , سلسلة الدروس الثقافية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1-الشورى:23.
2-سبأ:47.
3-راجع الكشاف، الزمخشري، ج3، شرح ص468.
4-مجمع الزوائد، الهيثمي، ج7، ص103.
5- تفسير الرازي، ج27، ص166.
6-إشارة إلى قوله تعالى:
﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (سورة التوبة، الآية: 105).
7-علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج1، ص250.
8-الكافي، الكليني، ج2، ص75.
9-صحيفة نور، ج8،ص19.
10-نهج البلاغة، الخطبة 45.
11-م. ن، الخطبة 12.
12-كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن قولويه، ص388.

2014-08-23